مقارنةً بـ«معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»، يبدو «المهرجان اللبناني للكتاب» الذي تنظمه «الحركة الثقافية ــ أنطلياس» موعداً ثقافياً يتجاوز فكرة إقامة سوق موقتة لبيع الكتب. لا يحبّذ منظّمو المهرجان المقارنات التي تُطرح لأسباب أخرى تتعلق بجدوى إقامة هذا المهرجان الجِهَوي في ظل وجود معرض بيروت الأقدم والأشهر. أصحاب هذا الرأي يربطون نشأة المهرجان بزمن الحرب الأهلية، ويتساءلون عن شرعية بقائه مع انتهاء الحرب، متناسين أنّ استمراره أمرٌ إيجابي، حتى لو كان ذلك مثالاً ناجحاً على تطبيق لامركزية إنمائية في الثقافة.
المهرجان نفسه يُبعد هذه التساؤلات جانباً، ويراكم أنشطة نوعية كافية ليستحق شرعية استمراره. يبدأ ذلك من إصرار المنظمين على أنه «مهرجان ثقافي» وليس معرضاً للكتاب فقط، وهو ما نجده في تفوّق البرنامج الموازي للمعرض على المعرض. يصبح الثاني ذريعة لطموحات ثقافية عابرة للحدث نفسه. هكذا، يمكن الحديث عن 32 سنة من ربط الثقافة بالمجتمع المحلي، وجعل ذلك جزءاً من ذاكرة الثقافة اللبنانية كلها. هناك مذاق لبناني في الحدث، لكنه ليس لبنانوياً ضيّقاً. تأسس المهرجان في منطقة محددة، لكن جغرافيته كانت محكومة بالحرب العبثية التي كان المهرجان نوعاً من الاعتراض الثقافي السلمي عليها. اعتراضٌ لا يزال صالحاً ضد زمن السلم المهدد بالعنف والتحريض الطائفي. «ما قمنا به من فتح معابر في الماضي، ما زلنا نمارسه اليوم أيضاً»، يقول الأمين العام لـ«الحركة الثقافية» عصام خليفة الذي يؤكد أنّ الحركة اشتغلت على ربط الثقافة بالمجتمع «بدأنا في الحرب وضدّ الحرب. حاولنا أن نغير في الثقافة ونغيّر من خلالها، وعملنا وفق خريطة ثقافية وإبداعية عابرة للطوائف». ما يقوله خليفة مترجم في الدورات السابقة للمهرجان كما في دورته التي ستبدأ اليوم. «الحركة ليست معزولة عن المزاج الثقافي العام كما يفكر البعض. ما المشكلة في استمرار المهرجان إلى جانب «معرض بيروت العربي»؟ لماذا لا نفكر بتحسين الحدثين معاً؟». سؤال مشروع يطرحه خليفة في ظل تركيز «معرض بيروت» على الناشرين، وحركة المبيع، وتعويل المهرجان الأنطلياسي على التواصل مع المثقفين. هناك شيء من النخبوية في أجواء المهرجان مقارنةً بجمهور عريض ومتعدد المشارب في معارض الكتب عادةً، لكنها نخبوية حميدة تعيد الاعتبار إلى تقاليد تنويرية وحداثية باتت جزءاً من صورة لبنان وهويته. من زاويته كمؤرخ، يبدو هذا الربط مع تقاليد راسخة مثل هذه، مسألة بديهية لخليفة، ما يفسر سعي الحركة الدائم إلى توسيع مصطلح الثقافة، وربطه بالمجتمع المدني والديني (المنفتح). يكفي أن نعود إلى قائمة المكرّمين في دورات سابقة، حتى تلمع أسماء مثل حسين مروة، الشيخ صبحي الصالح، قسطنطين زريق، عبد الله العلايلي، فؤاد سليمان، يمنى العيد، الياس خوري... القصد أنّ مروحة الأسماء هذه تُنسينا الجهة التي يُقام فيها المهرجان، وتجعله مهرجاناً لبنانياً شاملاً صَدف أنه لا يُقام في العاصمة، كذلك إن صفته اللبنانية تتحقق في استئنافه لصورة لبنان النهضوي والمتعدد، وهو ما جعل المؤرخ أحمد بيضون (كُرِّم العام الفائت) يشير إلى أن لبنانية المهرجان تجعله أقدم من معرض بيروت. هكذا، تعود المقارنة مجدداً؛ إذْ يتحدث خليفة عن «حراكٍ ثقافي» مقارنةً مع «طغيان الجانب التسويقي» في معرض بيروت، ويؤكد أنّ معرض أنطلياس «ليس نشاطاً مناطقياً، بل مهرجان يقوم على ما يُهمله المعرض الأكبر والأقدم».
من جهته، يؤكد جورج أسطفان، أمين الإعلام في الحركة أن برنامج الندوات والأمسيات والتكريمات هو الوجه الحقيقي للمهرجان، وليس معرض الكتاب. يحدثنا عن مواعيد ثابتة كل دورة، بينما الجديد يطاول عناوين الندوات، وأسماء المكرمين، وتوقيع الإصدارات الجديدة. يشير إلى جديّة الحركة في مراكمة التجربة وتأريخها، فلا تتحول إلى مناسبة سنوية تنتهي بانتظار تكرارها في العام التالي. على غرار أبحاث «الندوة اللبنانية»، تطبع الحركة كتاباً يتضمن مداخلات وندوات كل دورة، وتوزعه في الدورة التالية، كما تطبع كتباً تخص الأسماء المكرمة سنوياً، ويتحول ذلك إلى مرجعيات ووثائق للدارسين والباحثين.
مهرجان أنطلياس يشبه نفسه. يشبه أن يحتفل بمئوية رئيف خوري (1913 ــ 1967)، ومرور 150 عاماً على منشورات «دار صادر». يشبه تكريم جورج قرم (لبنان)، وأنطوان زحلان (فلسطين)، وعبد الجبار الرفاعي (العراق). يشبه أن نرى على مدخل قاعة العرض تحية إلى 18 مثقفاً رحلوا العام الفائت. نقرأ أسماء عاصم سلام، أحمد سويد، ناجي علوش، جوزيف حجار، أسامة العارف، فؤاد الترك... فنعرف من أين يبدأ المهرجان، وإلى أي آفاق يطمح.