ينخرط نبيل الملحم في أهوال اللحظة السورية بكل تشابكاتها، معتبراً أنّ ما يجري منذ عامين، أقرب ما يكون إلى «رقصة على حواف مقبرة». روايته الجديدة «موت رحيم» (دار أطلس ــ بيروت)، استكمال لوقائع كان قد تلمّس عتباتها في روايته السابقة «بانسيون مريم». هذه المرّة لا يكتفي بالوقوف عند العتبة، بل يتوغل في متاهات خريطة ملتبسة ومراوغة يصعب فحص تضاريسها بدقّة. ثورة، أم انتفاضة، أم حرب مهلكة؟ أسئلة ستواجه مربّي الدجاج، والشيوعي العتيق رحيم الحلبي، وهو يجد نفسه في قلب الحدث، بعد حياة عبثية مديدة، تمتد من فنزويلا إلى دمشق، وانتهاءً بقريته الجنوبية «وادي الرف». يفتتح صاحب «سرير بقلاوة الحزين» روايته بمشهد كرة قدم بين الجد والحفيد. كرة سوف تتقاذفها أرجل كثيرة، من دون أن تدخل المرمى مرّة واحدة. لكن العبارة التي ينطق بها الحفيد في تفسير ما يجري في البلاد بأنّه فعل مضاد للسأم بعد نصف قرن من العبودية، تضع الجدّ أمام فاتورة ضخمة من الخسارات والأوهام والأخطاء، لن يكون آخرها، فقدانه المدجنة التي كان يديرها، وأثاث بيته الذي سيباع في المزاد العلني. شخص وحيد وأعزل في بيت مهجور، وذكريات لا تحصى عن نساء عبرن حياته الطويلة، وسلالة من أبناء لاشرعيين، سيتعرّف إليهم من تفاحة آدم التي تميّز أعناقهم.

كذلك سيرسم إحداثيات الحراك، وفقاً لمجريات لعبة النرد مع خصومه في المقهى، ليعلن بضربة حاسمة أنّ «اللعبة انتهت». لعبة مراوغة الموت الشخصي، وموت البلاد التي ترزح تحت وطأة دخان ثقيل أسود، ورائحة حروب الأزقة، وأوهام نشطاء الفايسبوك، وهتافات الضواحي، وهوامش المدن. السأم أيضاً، سيقود رحيم الحلبي إلى أول تظاهرة شهدتها دمشق أمام السفارة الليبية، وسيكون خبر اعتقاله فاكهة صفحات الموقع الأزرق، مجللاً بألقاب مهيبة، لم تكن يوماً، جزءاً من سيرته العابثة، لتكتمل الكوميديا السوداء بإعلان مقتله، وتشييعه في جنازة حاشدة، بوصفه واحداً من شهداء الثورة، فيما كان رحيم يتفرّج شخصياً على جنازته المفترضة، والهتافات التي كانت ترافقها، من دون أن يتعرّف إليه أحد، عدا يسار مظفر، الناشطة التي حبكت خيوط هذه الملهاة عن عمد.
لا تتبرأ هذه الرواية من مسببات الانتفاضة السورية، وتراكمات الطغيان طوال عقود، لكنها في المقابل لا تنظر باطمئنان إلى شريط القتل اليومي، وتمزّق خريطة البلاد إلى خرائط، واحتلال الهامشيين حيطان الفايسبوك بركام حماسات لغوية طائشة لا تعبّر بعمق عن أطياف المشهد. هناك مفصل ضائع في الجحيم السوري الذي يقترحه نبيل الملحم، يصعب التقاطه، وسط هذه الفوضى؛ فقوس الحدث ما زال مفتوحاً، وهو ما يضع أي مغامرة روائية في فخ اصطياد معنى غائب لما يحدث وسيحدث. وسيبقى لقاء المصادفة بين رحيم الحلبي والناشطة الشابة يسار مظفر مجرد وهم تخييلي ليس له مرادفه في الشارع؛ ذلك أنّ القطيعة واضحة بين هذين الجيلين لجهة يقين الأول بأنّها ثورة مجهضة، وعبثية، وربما مسليّة، في مقاومة الضجر، وقناعة الثانية بحتمية الانتصار، أقلّه، أنها تمكّنت من استضافة خمسة آلاف صديق ثوري على صفحتها في الموقع الأزرق.