خرج اللبنانيّون من الحرب، لكنّها لم تخرج منهم. وقد يكون تحويل الشاشة إلى «حلبة» رغبةً لاواعية في نفس كل واحد من الأبطال الجدد. أبطال برامج الـ«توك شو»، قاذفو الكراسي وأصحاب العضلات المختبئة خلف ربطات العنق. لكنّهم رجال لم يهبطوا بالباراشوتات إلى الشاشات، بل عاشوا الحرب، ومنهم مَن يسمح لنفسه باستردادها على الهواء. نتحدث هنا عن رجال «مياومين» بعقود عمل غير معلنة مع قنوات «الريتينغ» البائسة. صحافيّون ونواب و«إعلاميّون». كأنّ الصفة الأخيرة أوجدت للعاطلين من العمل كي يخرجوا ليقولوا علناً ما تقوله الأحزاب سرّاً في منحى دعائي يلامس الغوبلزيّة. أما عن «قيمة» النقاشات، فهي من قيمة الأفعال التي تنتهي إليها حلقات الـ«توك شو».
حوار ينتهي غالباً بالصراخ الغوغائي، وتسوده حركات انفعاليّة بالوجه واليدين، لتخفي القيمة الحقيقيّة للكلام المقال، ما قيمته؟ هل سأل اللبنانيّون المتسمّرون خلف التلفزيونات لتجرع هذه السموم أنفسهم هذا السؤال؟ مرّ وقت طويل ولم نرّ محاضراً في جامعة أو باحثاً على التلفزيون. التلفزيون للـ«المحلل السياسي». أنعِم وأكرِم.
إنهم المحلّلون ذاتهم الذين يقذفون المشاهدين بحقلٍ معجمي سوقي، تفشى خلال الحرب الأهليّة. لا يتوانون عن البذاءة ولا عن الزعيق. وقد تكون «المرجلات» التي تحدث على التلفزيون استكمالاً للمعارك القديمة بأسلحة جديدة. الشتائم بدلاً من الرشاشات، والتضارب بالكراسي بدلاً من الأسلحة الثقيلة، هذه هي المعادلة الآن. الشعب الذي غادر الحرب شكليّاً لا وجودياً، لن يكون راقياً على التلفزيون، وسيستحضر ثقافتها محوّلاً الأخير إلى جبهة قتال. لكن طالما أنّ الأمر يصبح متاحاً في مجلس النواب، فلماذا يستغربه المشاهد على القنوات؟ لقد تحوّل المجلس إلى حلبة عملاقة، فيها 128 بطلاً من دون أن يكون التعميم ملزماً هنا. من هذا المجلس صدرت دعوات لـ«تطهير» الأفواه، ونعت نواب زملاءهم بالكلاب، ووقف آخرون رافعين أكتافهم على طريقة «القبضايات» مستعدين للهجوم. وإن كان التشريع على هذا النحو، فكيف سيكون «الحوار» التلفزيوني؟ أنعِم وأكرِم.