حوالي عبّاس بيضون
لا يسخر رأساً بل يعطي قارئه أنْ يسخر. أنجحُ طريقةٍ روائيّة (وغير روائيّة). وَضْع القارئ في الجوّ دون إلقاء الخطاب عليه. مداورةٌ مستحبّة بل حِرَفيّة تماماً. عكسُها توجيهيّ وغالباً سطحيّ.
وجمل حرّاقة مثل هذه: «طالما كنتُ لا مبالياً تجاه المسلّحين وحتّى تجاه موتهم، أشعر أنّهم يستحقّونه وأنّ هذا، تقريباً، عملهم. أشعر أنّ حامل السلاح يصبح ميّتاً لمجرّد حمله، يصبح آلةَ سلاحه لا العكس. (...) لم تكن هذه حال الشيخ خالد، كنتُ أنظر إلى عينيه لا إلى سلاحه وأسمع صوته العميق. له صوتٌ وعينان وليس مجرّد جثّة خلف السلاح. كانت له هيئة الشهيد فعلاً».
يواصل عبّاس بيضون في روايته الجديدة «ساعة التخلّي» (دار الساقي) استكمال عمارته صدقاً صدقاً كشفاً كشفاً جرأةً كاسحة وراء جرأةٍ مذهلة، حفراً في ما وراء حجارة الذاكرة والذات والظواهر.
في المدينة اللبنانيّة المتاخمة للشريط الحدودي، والمفترض أنّها صور، يتحدّث الشبّان فوّاز أسعد، نديم السيّد، بيار مَدْوَر وصلاح السايس كلّ بدوره وعلى انفراد، فضلاً عن «سائر الرفاق اليساريّين»، عن لحظات التهديد الإسرائيلي بغزو المدينة وانسحاب المنظّمات الفلسطينيّة منها نحو بيروت. فوضى وإحباط. نشوء جماعة متطرّفة تطلق على نفسها اسم «اليقظة» وتتحكّم في الشارع. خطف ومعارك بين رفاق السلاح. ثم تزول «اليقظة». ويقول نديم السيّد: «وحدي لم آسف على انتهائها. أكره الذين يصدقون في كذبهم، وأفضّل عليهم أولئك الذين يعلمون أنّهم يكذبون (...) أنا قد أقول ما لا أؤمن به لكنّني في الحقيقة بحاجة إلى أن أؤمن بشيء، بل بأشياء. إنّ مقداراً كافياً من الإيمان يساعدني على أن أنجز خداعي، على أن أعود سالماً بعد كل خداع. أنا بحاجة إلى أن أؤمن بأشياء لم يعد أحد يؤمن بها (...) لا أحتاج إلى أن أكون طائفيّاً أو عائليّاً (...) لكنّي أعرف أنّ الطائفيّة والعائليّة هما جلد المجتمع الذي يتظاهر بأنّه يكرهه، بأنّه يتحمّله كجثّة لكنّه مع ذلك ميزانه وأساس عمله».
ويستمرّ تمزيق الأقنعة. عبّاس بيضون، الكبير عبّاس، مزيجٌ من براءةِ شاعرٍ ونفوذِ بَصَرِ فيلسوف. نادراً ما انصهر هذا التلاقي في شخص، وأندر منه في كاتب. يقول: «المنظّمات لم تكن صادقة إلّا حين خرجت. حملوا السلاح ونحن حين ساعدناهم على حمله كنّا نستسلم له ولهم. حين ساعدناهم على حمله ساعدناهم على أنفسنا، وبدون انتباه صرنا مغلوبيهم (...) لم تقع المعركة وبذلك ضاعت كلّ التمارين التي جرت علينا. لم تقع المعركة لكنّنا سندفع ثمناً أكبر لعدم وقوعها. لن يجد الهاربون سوانا لثأرهم. سنكون مجدّداً موضوع تلك الرجولة المكسورة وهدفها». تغرف من الكتاب حيث شئت ما ينطبق حرفيّاً على الماضي والحاضر والمستقبل. وبلهجةٍ ملؤها الصفاء والغَسْل. الألم وديعاً وبكلّ كرامة. الحقيقة بمختلف الطباع والأمزجة. تغرف من رواية عبّاس بيضون هذه كما تغرف من جميع ما كتب ويكتب مثلما يغرف السابح من بحر.
حتّى لتتساءل: أكتابةٌ هذه أم ضمائر تنطق بحروف؟
ما تخشى قوله تجده عند عبّاس بيضون. ما لا تحسن قوله أيضاً. وما لا تعرف كيف تقوله. وما تَجهل. وستقع، حين تراه في كلماته، تحت بهر الكشف.
حيث يجعلك النبوغ تُعايش أعمق الأسرار كأنّها بديهيّات. إنّه منتهى الإبداع.




سوريا

ما يستمرّ حصوله في سوريا منذ عامين لا يوازيه كلام. تبدو لوحة بيكاسو «غيرنيكا» مضحكة أمام الفاجعة السوريّة ويبدو جحيم دانتي تَرَفاً. لا السلطة _ أيّ سلطة _ تستحقّ نقطة دم ولا الرغبة في التغيير تستحقّ كلّ هذه الأضاحي. ولا التعبير عن الفاجعة السوريّة يضاهي أو يفي بيومٍ واحد بطفلٍ واحد بعذاب واحد من جلجلتها.
هل في سوريا بعدُ إلّا هواء المقابر؟
وإذا أتانا الدور بعدها على لبنان والأردن والعراق ومصر وفلسطين وتونس والمغرب والجزائر والخليج ستأتينا أنظمةٌ مستنسخةٌ من النظام السوريّ؟ أم على شاكلةِ ثورة الله أكبر؟
مَن قال إنّ العقل الأميركي الاستعماري الجديد فاشل مقارنةً بالعقل الاستعماري الأوروبي القديم؟ مَن قال إنّ إسرائيل ولاية أميركيّة وليست أميركا ولاية صهيونيّة؟
يجب اكتشاف لغة جديدة لقول الهول السوري وتأسيس مجلس أمن دولي جديد لمنع اللبننة والسَوْرَنة والعَرْقنة ومختلف أشكال جرائم الحرب والإبادة، بالقوّة فوراً أينما كان، ودون حقّ النقض لأحد.
كَرِهْنا الحكم السوريّ لأنّه حَكَمنا فلا نُذِق السوريّين ما أذاقنا ضبّاطهم. الشعب السوريّ استضاف اللاجئين اللبنانيّين لا في حرب تموز 2006 فحسب بل خلال سنوات الحرب الأهليّة كلّها وفتح بيوته وقلوبه لهم.
هذه ذكرياتنا عن الشعب السوري. وحين نتكلّم عن سوريا ننسى استبداد الضبّاط والاستخبارات بنا. ننسى التلاعب بنا. نتذكّر آدميّة الشعب السوري التي لا مثيل لها. ويجب أن نبادلهم اليوم بأحسن منها. نبادل الذين جاؤوا إلينا ونبادل الذين ظلّوا في بيوتهم فلا نرسل لهم مجاهدين يفاقمون الفتنة ولا نؤجّج الفتنة.
السوريّون شركاؤنا في أفضل ما لدينا. في النهضة الأدبيّة والفكريّة وفي الازدهار الاقتصادي منذ الخمسينات من القرن الماضي وفي تشييد مبانينا وزرع حقولنا. وليسوا هذا فقط بل هم يرون فينا أفضل ما فينا.
كلّ ما نستطيع أن نقدّمه للسوريّين الذين نستضيفهم يجب أن لا نتردّد في تقديمه. الذين نكّلوا باللبنانيّين تحت مُسمّى الوصاية السوريّة ليسوا الشعب السوري. الذين قتلوا الشهداء ليسوا الشعب السوري. الشعب السوري زهرة الشعوب، وهو كلّه اليوم شهيد.




صخور القفس

يتحوّل الصدر إلى مدى شاهق وسحيق، تتدحرج فيه عوالم يستمرّ انهمارها من أعلى إلى أسفل، من مكانٍ مجهول إلى أماكن مجهولة، تشليقاً وانفجاراً، انسلاخاً وتناثراً، مثل كواكب تبعث بحطامها، وحطام يقذف رماده.
هذا الصدر، هذا القفص الصدري، يتحوّل في لحظة الألم إلى جبل يتفسّخ وصخورٍ تتهاوى نحو أحشاءٍ تتلوّى وتتلقّى الضربات كما يتلقّف جوف الوحش عظام الفريسة. لكنّ الجوف، هنا، يتوجّع ويئنّ ولا محلّ لشبع.
في لحظة الألم.
في حالة الحرمان، حالة عضّة النقص، حالة الليل الفارغ.
في حالة الخوف.
في حالة، في حالة الشعور من طرفٍ واحد.
وهل هناك شعورٌ إلّا من طرفٍ واحد؟
... وحتّى لو تبودل الشعور، في اللحظة ذاتها ينبجس جرحُ الخَلَل.





«ضيعانه»

«ضيعانه»، أي ضيعان هذا الذي كان مواظباً على السهر، على البحث.
بقاؤه حيّاً كان سيعني لعارفيه ضماناً بأنّ هناك مَن يبحث، أي أنّ هناك مَن يتحمّل مسؤوليّة الوقت.
لعلّ أصعب امتحانات الحياة هذه المسؤوليّة.
مسؤوليّة الوقت هي أن يأخذ حاملها على عاتقه تَقدّمنا في العمر، ويغسل أخطاءنا، ويحرس الأسوار.
غاب أبٌ لصديق، وعندما صافحته معزّياً لم أجد ما أقوله غير «ضيعانه».
حرّاس الأسوار هم نواطير الروح. هم الآباء الوحيدون الذين متى غابوا شَعَرْنا بعرينا.



متعة؟

أيّ متعةٍ في الحبّ؟ في «عمل» الحبّ؟
الاستنفار النفسي والعضوي الذي يضني الكائن؟ أم القلق على مدى تجاوب الآخر؟ أم هَوَس الإعجاب؟ أم التوجّس من الانصدام بعيوب الوجه المستور للآخر؟
الحبّ بفصليه _ العاطفي والجنسي _ يستنفد الكائن حتّى انعدام القدرة على المتعة إلّا في البعد الاستحواذي ثم في بلوغ النشوة.
الاستحواذ عمره لحظة. وأمّا الأورغاسم فغرفةُ انتظارِ الفراغ.