للحيطان البحرينية خربشاتها التي تقول للناس كل شيء. كل شيء. تقول لهم: هنا إنسان. هذه الأرض. هنا حفل توقيع الحرية، أو هنا الحكمة المُبهجة. الجدران أماكن لا تنسى عاشقيها، حكاية الجدران تقول لنا: أنا الحقيقة لا سواي! في صباحات أيام الستينيات والسبعينيات إلى يومنا، يصحو الناس في قرى البحرين ومدنها ليقرأوا على الجدران عبارات تحرضهم على فعل شيء. في الستينيات، كانت أوضاع خانقة في الداخل إلى جانب أوضاع ثورية في الخارج تدعم مطالب شعبنا المتمثلة في الحرية والاستقلال والانعتاق من سطوة الظلم ونير المستعمر. مشهدان متلازمان في الكتابة على الحيطان يتكرران إلى يومنا: وطنيون ثوريون ملثمون يملكون وعياً ثورياً يخطون العبارات، ثم تلجأ الشرطة التي تراقبهم للانقضاض عليهم، فتصبغ عباراتهم حتى لا يستطيع أحد قراءتها، لكن عبثاً تحاول السلطة أن تنتزع صِدق ما يخطه هؤلاء على الجدران أو ما يترسّخ في أعماق أعماق الناس.

ليست «خربشة» على الجدران عندما يكون المخطوط بعبارات سخط وغضب على الأوضاع المعيشية، وطرح مطالب عادلة ومشروعة. فقد دفع الضريبة أناس بعينهم بادروا بمحض إرادتهم إلى توعية شعبهم والانخراط في مسيرة النهوض والانتفاض ضد الاستبداد والظلم والقهر والتمييز الطبقي والاجتماعي. ضريبة يعرفون عواقبها مسبقاً وتتطلب تضحيات جساماً: اعتقال، تعذيب، وركل، ولكمات، سجن طويل، وربما تصفية في المعتقلات، لكنها في النهاية شكل من أشكال النضال المتواصل الذي يبدأ دوماً بتأسيس صحيفة وإن كانت جدارية لتكون داعية سياسية ومُحرضة، ومنظمة جماهيرية تُبلغ الناس في كل صبيحة ما يُريدونه وتوحّد غضبهم على الذي يُعرقل مسيرتهم نحو الحرية والعدالة.
زمان، في الستينيات كنا صغاراً، وكانت جدران بيوت الطين في قرى البحرين مليئة بمخطوطات مثل: يسقط ويعيش، كفاح ونضال، ظلم واستعمار، رجعية وتقدمية، وأيضاً أسماء لزعماء وطنيين وثوار: جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، جميلة بوحيرد الجزائرية والثائر غيفارا.
على جدار «دولاب الباليوز» عبارتان سياسيتان ما زالتا محفورتين في الذاكرة. يتوسط هاتين العبارتين شعار من اختراعاتنا الطفولية غير الناضجة تقول: «الكفاح من أجل النضال!»، فيما العبارة الأولى: «يا جمال عطنا سلاح وخذ بداله كفاح!». في مقابل هذه العبارة نجد: «عاش الزعيم عبد الكريم، يحيا العراق شعب عظيم». والآن بعدما كبرنا، فهمنا سرّ هاتين العبارتين، حيث من كان يقود تلك الثورة أو الانتفاضة في آذار (مارس) 1965 قوى وطنية ذات نزعة تحررية من الاستعمار البريطاني (قومية وتقدمية يسارية) تعمل تحت الأرض وتسير اضراباتها العمالية والتظاهرات وفق أهداف وطنية، تجددت بعد تصفية هيئة الاتحاد الوطني عام 1956.
في السبعينيات، تغيرت الشعارات بعد الاستقلال. كانت الجدران تحكي بها، غير أن سلوك السلطات وممارساتها التعسفية لم تتغيّر في قمع خطاطي العبارات السياسية على الحيطان ومعاقبة المنطقة بعشوائية حيث كتبت هذه العبارة أو تلك. في صبيحة أحد الأيام، صحا الناس في قرية جد حفص ليقرأوا على الحيطان عبارة: «يعيش البطل سعيد العويناتي» ولم يكن قد مضى شهر بعد على استشهاده تحت التعذيب في قوة دفاع البحرين.
وفق مجلة «النضال» التي تصدرها «جبهة التحرير الوطني» البحرينية (عددها الثالث لعام 1977)، فإنّ تلك العبارة سببت هستيريا للاستخبارات. وفي 2 كانون الثاني (يناير) اعتقلت ستة أطفال من القرية ذاتها لا يتجاوز «أكبرهم الـ 14 وضربتهم ضرباً مبرحاً بعدما فتّشت منازلهم وصادرت كتبهم الدراسية». وتضيف «النضال»: «لا تحتاج الحكاية إلى تعقيب. هي كافية لتقول كل شيء، ربما لجأت الشرطة إلى المحو كعادتها في التعامل مع العبارات المخطوطة على الحيطان، فصبغتها حتى لا يستطيع أحد قراءتها، لكن عبثاً تحاول السلطة نزع الشهيد من قلوب الناس والأطفال. وحين تزداد عزلة حكومة البحرين، وتزداد النقمة على الجلادين، فإن الشهداء يسكنون القلوب».
* صحافي من البحرين