خلفية الحرية تثبت دوماً أنها الأقوى لدى الشعوب، منها بدأت هتافات ساحات الثورة تنمو على جدران الناس الحقيقية والافتراضية. موجة لم يصدق أحد أنها ستُسقط جدراناً ضخمة وثقيلة بنتها سنوات من القمع والفساد. إنّها حرب المعلومات في عصر الربيع العربي، حشرت الديكتاتورية العجوز وراء المدفع والاعلام الرسمي. في ظل هذه الثورة الجديدة، لا يمكن الأنظمة الفوز في حرب الجدران على شبح، فيما الجدار الورقي يعاني أزمة عالمية قد تؤدي إلى زواله.
عن هذه الجدران العصرية، صدر كتاب «جدران 14 فبراير... غرافيتي ثورة البحرين» (عن «مرآة البحرين» ضمن مشروع «أوان ذاكرة اللؤلؤة»). المشروع التوثيقي (صادر بالعربية والانكليزية) احتوى على 400 صورة في مديح جدران الثورة. لوحات خطّها فنانو غرافيتي مجهولون داخل قرى ومدن البحرين المختلفة، منذ اعلان تاريخ الثورة في 14 فبراير (شباط) 2011 وحتى نهاية عام 2012. في تسعة فصول، يطرح العمل تاريخ الغرافيتي البحريني الذي كان من الوسائل البسيطة المتاحة للثوار خلال العامين الماضيين. مراجعة حديثة لهيمنة وتمدد رمزية الجدران من مختلف زوايا الثورة السياسية والحقوقية والدينية العاشورائية. ثورة خنقها الخطاب الرسمي وسط تعامي الغرب، وغياب كاميرات الإعلام العربي. الانتفاضة المحاربة والمضيق عليها خطّ أهلها رسالتها على الجدران، وحفروا شعارات الثورة داخل الأزقة الضيقة في كل قرية داخل الجزيرة الصغيرة.
تحليل المشهد الغرافيتي في المملكة الخليفية الثائرة، ركز على الجانب الثوري ومطالب الثوار. بداية مع الشرارة الأولى للثورة، خاض المنتفضون محاولات تلوين جدران «دوار اللؤلؤة» وسط المنامة. تغيّر بعدها مكان الشعارات ومستواها. كلمات ظل يلاحقها النظام بعد الانتهاء من أكبر حملة قمع شهدتها البحرين، ودخول الاحتلال السعودي تحت اتفاقية «درع الجزيرة» وفرض قانون السلامة الوطنية.
الشعارات التي كُتبت ورفعت في «تظاهرات 14 فبراير» 2011، أجبرت السلطات الخليفية على هدم نصب اللؤلؤة الذي أنشئ عام 1982. محاولة الديكتاتور لم تنجح. انتقلت بعدها تلك الشعارات مع وجوه الشهداء لتبقى على جدران البيوت كلازمة على استمرار الثورة. أرشف الكتاب للمرة الأولى شعارات الغرافيتي في حربه المعلنة مع النظام للسيطرة على الفضاء العام للمدينة، ومحاولات توظيف هذه الشعارات بنوعيها المكتوب والمرسوم لتحقيق الهدف الذي خرج الشعب لأجله. الكتاب احتوى على شهادات وصور طبعت الانتفاضة السلمية التي تعيش البحرين ذكراها الثانية هذه الأيام.
بعيداً عن إعلام دول النفط المقنن والجداريات الالكترونية التي باتت مراقبة، حيث يعاقب أصحاب الصوت العالي بالسجن، باتت الجدران الحقيقية هي الساحة العامة الآمنة للناس. يجسد هذا القول ما كتبه أحد فناني الغرافيتي البحريني على أحد الجدران: «لو وجدنا من يسمعنا، لتركنا صحيفة الجدران».
عامان على الثورة حفظهما الكتاب عبر توثيق جداريات اتشحت بصور الشهداء والمعتقلين ورسوم وشعارات تطغى على صور السلطة وشعاراتها داخل المدينة التواقة إلى الحرية.
الجدران الحقيقية اليوم باتت وسيلة ثانوية بعد الجدران الالكترونية النشطة. شُغل المحتجون بثورة عصرية، تسلحوا فيها بموبايلات وحواسيب في معركتهم السلمية ضد النظام السياسي. التفاعل داخل العالم الافتراضي خلق ثورة الكترونية ترفع عنوان ثقافة الحرية على مواقع التواصل الاجتماعي، ونقلت صدى الشارع المقموع.
سنرى صور شارة النصر تتصدر المشهد الغرافيتي البحريني. رسوم «دوار اللؤلؤة» المهدوم باتت مزروعة في كل قرية وجدار، تحدّياً لسلطة حاولت محو الذاكرة الجماعية للشعب الثائر. صور شهداء ومعتقلين تتكاثر كل يوم... شعارات وكلمات غاضبة ومطالب لم تتغيّر منذ عقود في جزيرة اللؤلؤ.
كتاب الجدران الشاهدة على صور لم تكتمل، وصور كثيرة رفعت وصور أكثر لم ترفع بعد، وأخرى ملونة وصور بالأبيض والأسود. شهداء ومعتقلون رسمت صورهم بالأحمر. لون الدم هذا يحيلنا على أهمية الصورة في الذاكرة البحرينية. ثمة قراءة فنية وسياسية متعددة تشرّح الفضاء الغرافيتي داخل المدن والقرى البحرينية. كتابات ثورية شاهدة واعادة تجسيد لرسوم كاريكاتورية عالمية، منها رسم للفنان البرازيلي ماركوس، صوِّر فيه الملك البحريني حمد آل خليفة يقود سيارة «فورمولا» برفقة مدير سباق «الفورمولا 1» البريطاني بيرني إيكلستون، فيما الدخان المتصاعد من سيارة السباق يقتل المتظاهرين البحرينيين، في إشارة إلى الحملة التي قادها ثوّار «14 فبراير» ضد إقامة سباق السيارات العالمي على حلبة البحرين الدولية لسباق السيارات في العامين الماضيين. جدارية أخرى تظهر طائفية النظام وتجسّده على شكل مسخ مخيف. لعبة قذرة حاولت الملكية العجوز ضرب الثورة بها.
حرب الكتابة والإعادة على الكتابة مرة أخرى، قد لا تنتهي قريباً بين شباب الغرافيتي البحريني من جهة، والسلطة على ساحات الجدران من جهة أخرى. في «المحو والإثبات» الفصل الثامن من الكتاب، أدى خوف النظام إلى إبقاء لعبة المحو مستمرة في افساح مساحة بيضاء جديدة للكتابة عليها من جديد بعد محو القديم المؤلم والمعادي له.
يضعنا الكتاب أمام تجربة فنية لشعب حاولت قبائل النفط الخليجية تغييب ثورته عن خارطة الربيع العربي. «جدران 14 فبراير» خطوة أولى مصوّرة لثورة خرجت تحت شعار «الحرية لؤلؤة البحرين».
شاركت في العمل مجموعة من الكتّاب تحت اسم «مرآة البحرين» ومصوّرين وفناني غرافيتي قدّموا شهاداتهم في حرب مفتوحة على ذاكرة الناس الجماعية. فنانون سيظلّون مجهولي الهوية في بلد سلّط حكامه آل خليفة لون العبث على كل شيء في تلك البقعة الصغيرة، فيما غدت ميادين الناس الصغيرة وجدرانهم المسالمة أدواتهم الوحيدة في المواجهة. نظام لطالما أخلف معهم ترتيب الحياة والموت الأبديين.

تدشين كتاب «جدران 14 فبراير... غرافيتي ثورة البحرين»: 6:30 مساء اليوم ـــ «قصر الأونيسكو» (بيروت) www.bahrainmirror.com