يوغل الوجع أكثر في يوميات السوريين من دون أن تجرؤ يد واحدة على نزع الخناجر المغروسة في خاصرة أيامهم، بل يتقافز سرب من الدمى والمهرجين ليمتطوا صهوة جراحهم. والحقيقة أنّ الكوكب البائس بأكمله يشيح بوجهه عن صورهم وهم يغتسلون بالدماء، وتغرق صباحاتهم بالحبق المنثور على رفات الشهيد وتتحوّل أعيادهم إلى عويل عند شاهدة المقابر الجماعية. لقد غيرت المجازر شكل وطنهم، فأصبح منفى بإقامة جبرية. مع ذلك، فأهل الشام محكومون بالأمل، علّقوا على جدرانه الحنين لأيام خلت، لكنهم لم يتوقفوا عن الرقص رغم تساقطهم جثثاً هامدة كأوراق الخريف، ولم ينضب أدبهم الذي بدأ يحفر في الواقع الدامي، ولم يغب حسهم الساخر عن تحويل صفعات الخيبة والفجيعة إلى بسمة مؤقتة، حتى لو شابها قلق من أسود الحداد الذي خيّم على البلاد.
تلك القلوب الوجلة لم تتوقف يوماً عن النبض، وما زالت تعرف كيف تحب، وتخلق لنفسها مكاناً ولو ضاقت السبل، ولم يعد هناك متسع للحب. القذائف تحصد الأرواح ولا تميّز بين عاشق ومسلح! وهذه الفكرة راقت لأهل الفن الذين بدأوا يستثمرون من الواقع أعمالهم. في العام الماضي، قدم الممثل الشاب يامن حجلي تجربته الإخراجية الأولى في مسلسل «خلصت»، فحكى عن عاشقين خانهما الحظ عندما ضربت العشيقة لحبيبها موعداً في قبو البناية التي تسكن فيها، لكن سرعان ما علت أصوات الرصاص في الخارج وتحوّل موعد الحب إلى حديث عن الأزمة والآمال الضائعة وانتهت القصة باكتشاف الفتاة جبن حبيبها.
في مكان آخر، يسيّج السوريون قلوبهم بشجر السرو ويتشبثون بالحياة، وينسحبون بعيداً عن المعركة ليلوذوا بعالم افتراضي يصنعون فيه قصصهم، وينشرون على مدار الساعة خراب تفاصيلهم ويصنعون عقداً من فرح ويعشقون بجنون. الحبّ في زمن الحرب السورية صار افتراضياً والفكرة راقت للروائية السورية الشابة مها حسن المقيمة في فرنسا وعينها على بلدها. هكذا، كتبت رواية «طبول الحب» (صادرة عن «الكوكب»، دار الريس) لتحكي عن تفاصيل مستمدة الواقع السوري المطلخ ببقايا أمل. في 187 صفحة، تروي قصة ريما بكداش ابنة أستاذ جامعي في علم النفس ومخرجة سينمائية. العائلة مسلمة تعيش في مدينة حلب، لكن ريما تضطر لهجرة بلدها إلى فرنسا بعد أن تتزوج من حبيبها المسيحي مخالفةً في ذلك رغبة أهلها. على رغم عدم اعتراض الأب على الاختلاف الديني مع زوج ابنته، إلا أنّه كان يرى فيه صبياً لا يعوَّل عليه. وبالفعل لا تستمر علاقة ريما بزوجها أكثر من سنتين، لكنّها تظل مقيمة في باريس وتعمل مدرسة في جامعة الـ«سوربون»، بينما كان شلال عاطفتها قد جف نهائياً وتحول إلى صحراء قاحلة، ولم تعد تتعاطى سوى مع كلبها الذي يؤنس وحدتها وصفحتها على الموقع الأزرق. رغم اتخاذها اسماً مستعاراً هو إيزابيل صباغ، تقول إنّ تجربتها على الفايسبوك تستحق أن تدوَّن في كتاب. تقول في الرواية «الفايسبوك صنع حالة ديموقراطية في المجتمع العربي بحيث وجدت المرأة مكانها فيه كما الرجل».

لكن المفاجأة هي أنّ الفايسبوك سيعيد تحريك عواطفها. تتعرف إلى يوسف سليمان المحامي الناشط الذي يعارض النظام، ويناضل في سوريا من أجل معتقلي الرأي. يتحوّل الرجل من إدمان يومي إلى عاطفة حقيقية. يحمل حبّ بطلة الرواية شغفاً أكبر بعدما شكل حبيبها الافتراضي معادلاً موضوعياً يملأ الفراغ الذي تركه غياب العائلة، ويعيد بناء علاقتها بالوطن بعد غربة استمرت 20عاماً، لكن هذه المرة على وقع الهتافات المطالبة بالحرية والتظاهرات السلمية التي خرجت في بداية الانتفاضة.
هكذا، تستعيد ريما جغرافيا تغرق في الدماء، وتجعلها تتعلق بالثوار الحقيقيين وتحلم أن تنزل مدينتها لتتقصى الحقائق وتلتقي حبيباً دامت علاقتها به افتراضياً سبعة عشر شهراً. وبالفعل، تحطّ قدميها دمشق. وأثناء طريقها إلى الفندق، يخطر في بالها الاتصال بأهلها، فتقابل مكالمتها بزلزال من المشاعر المختلطة بين الفرح والحزن. تعود إلى حلب وتختلف مع والدها الذي يرى أنّ الامتداد السلفي المرعب يجعله يقبل بالديكتاتورية الحالية، لكنها لا توافق ولا ترى أنّ سوريا مهيأة لمد أصولي وإسلامي متطرف من دون أن تفقد حبها لوالدها. بعد أيام، تتفق على لقاء يوسف في إحدى التظاهرات. تصل وتخرج تلفونها من حقيبتها تتصل به ثم تروي نهايتها المحتومة بصوتها. تقول: «أقفلت الخط ورفعت يدي بالهاتف ألوّح له. رأيت يوسف للمرة الأولى في حياتي. ها هو يقترب منّي وفجأة شعرت بسائل ساخن يخرج من رأسي. رأيت يوسف يقطع الشارع نحوي. لكنني هويت قبل أن يصل».
هكذا، اختار القناص نهاية دراماتيكية لبطلة الرواية ليست أكثر من لحظة في واقع تعيشه سوريا كل يوم بعدما هجرت الأعياد تقويمها الممزوج بالقهر. لكن ظلّ الحب ذاكرة حاضرة لجموع من الراحلين إلى قبور حُفرت على شواهدها قصائد حب ممزوجة بالدمع ومرارة الرحيل الأخير.



قلت كلاماً كثيراً

أنا العاشق السيّئ الحظ. قلت كلاماً كثيراً/ وسهلاً عن القمح حين يفرِّخ فينا السنونو/ وقلت نبيذ النعاس الذي لم تقله العيون/ ووزعت قلبي على الطير حتى تحط وحتى تطيرا/ وقلت كلاما لألعب. قلت كلاما كثيرا/ عن الحب كي لا أحب، وأحمي الذي سيكون من اليأس بين يدي
«محمود درويش»