في مقارنة بسيطة بين ما يقوله معتقلو جبهة «النصرة» لمراسل «سكاي نيوز» مثلاً، وبين ما يقوله أحد قادة «لواء التوحيد» لمحطة «فرانس 24» يتضح أنّ «النصرة» لا تسرق من «الثورة السوريّة». اتهام الأخيرة بالاستلاب قد يكون فائضاً ــ نوعاً ما ــ عن الواقع، بل أشبه بمحاولة لطمس الواقع الديني الذي يوغل في تكوين صورة المعارضة السوريّة بعد ظهور «النصرة» وأخواتها. بمعنى آخر، بعد متابعة اللقطات الخاصة (على يوتيوب) بما يسمى «لواء التوحيد» مثلاً، تتبيّن شدة الشبه بين 12 كتيبة متحدة في هذا اللواء وتابعة لـ«الجيش السوري الحرّ» من جهة، وبين «النصرة» من جهة أخرى. و«النصرة» حالة متأخرة، ظهرت في كانون الثاني (يناير) من العام الفائت، سبقها إلى الإنترنت قائد «توحيدي» يعلن بوضوح تام: «الثائر هو الذي يصلّي وحسب»، محاطاً بمكيّة من الكتب الدينيّة التي تشكل «زاداً» للمقاتلين برأيه.
الضوء المسلط على الجبهة المرتبطة بـ«القاعدة» كجماعة خارج نَسيج المعارضة، لا يستند إلى منهج ابستمولوجي، بل يستغل تاريخ «تنظيم القاعدة» الحافل، فيلصقه بالجبهة الطارئة كونه على مقاسها تماماً، نازعاً من المشهد عوامل حاسمة تعلل طفرة الديني داخل «الثورة» في الأساس. هذا ليس نقاشاً يفاضل بين المعارضة والنظام، إنما قراءة لحضور الأولى على يوتيوب، وعرض لطغيان المقدس فيه على حساب «الثورة».
نتحدث هنا عن بيئة متدينة بالمعنيين الثقافي والاجتماعي، وعن الدين كهويّة جماعيّة معزولة عن الإيمان الفردي العادي. وأنت تشاهد «أبو بكر»، أستاذ اللغة العربيّة سابقاً، وقائد في النصرة حاليّاً، الذي يحقق مع «الشبيحة» المحتملين في حيّ سيف الدولة في حلب، ويتنقل على سجيّته باسم «الجبهة» بينما يتبارك منه الناس، ويباركون جماعته التي تهرّب المدنيين من قصف النظام العشوائي للأحياء السكنيّة، تتذكر أوليفييه روا في كتابه «الجهل المقدس» عندما يخلص إلى أنّ «الدين مأكول من قبل الثقافة، وقد تحوّل إلى شكل غامض من التديّن». الحديث هنا عن ثقافة السوريين من الطبقات الفقيرة التي تشكل بالمعنى المتداول «بيئة حاضنة» لهذا التدين الهجين. لا يعود ذلك غامضاً في الحالة السوريّة مع وجود يوتيوب. الأخير يعيد عرض ما تعرضه الشاشات حتى يلقى الرواج، ويوفّر على «النصرة» التي لا تستحي بتزمتها عناء «الدعاء إلى الله»، خصوصاً أنّ اللقطات التي نتحدث عنها بثتها قنوات غير متورطة في السجال السياسي في سوريا، كـ«فرانس 24» و«سكاي نيوز». في مقابلة مع الأخيرة، يقول أحد مقاتلي الجبهة «الأسير» لدى قوات النظام، إنه «يريد استعادة الأندلس لأنها أرض إسلاميّة ومن حقنا الذهاب إلى بريطانيا أيضاً للدعاء إلى الله». ويصدح مقاتل «ودود» بجانبه «على النصرانيين أن يسلموا، أو الجزيّة، وإما القتال». ولا يختلف هذا عن «أبو توفيق» قائد «لواء التوحيد» في حيّ صلاح الدين في حلب. قاتل الرجل في معارك نهر البارد، ضمن صفوف «فتح الإسلام»، ولا تعنيه «الثورة» لا من بعيد ولا من قريب، إنه من أهل «الجهاد المقدس». هذه هي المعركة، من المسجد يخبر «أبو توفيق» العالم: «جهاد مقدس».
وهنا الكارثة بالصوت والصورة التي يتناولها الباحث الفرنسي، برونو ايتيان في دراسته الهامة، «المحاربون الانتحاريّون: متبوع بكتاب عشّاق الأبوكاليبس»، محاولاً الوصول إلى إجابات عن موضوع «الجهاد». القصة ليست جديدة وفقاً لايتيان. منذ أوساط السبعينيات، بل «منذ نكسة 1967 وموت عبد الناصر، انتعشت الحركات الدينيّة في العالم العربي إلى درجة أدهشت المراقبين. دعت إلى العودة إلى الوراء وإلى القطيعة مع نمط الحياة الغربيّة»، لكن رغم ذلك، استخدمت الانترنت الوضعي والغربي للدعاء إلى الله. لقد زعمت أنها ستعيد العصر الذهبي للإسلام إلى سابق عهده. لكن ايتيان لاحظ أنها «لا تمت إليه بصلة، وإنما هي بالأحرى مرتبطة بالفترة الانحطاطيّة من تاريخ الإسلام: أي الفترة التي انقطعت كليّاً عن العلم والفلسفة والحضارة». ولا يحتاج الباحث عن ذوي اللحى الطويلة على يوتيوب إلى خلفيّة معرفيّة وافرة ليفسرّ مشهد الطفل المدفوع إلى التهليل لذبح الآخرين (راجع المقال أدناه)، والليبي الذي يخطب بالحلبيين شاهراً سيفه الطويل داعيّاً إلى ذبح العلويين و«التنكيل بهم تنكيلاً»، مستنداً إلى آية في القرآن لن يتجرأ أحد على التشكيك بها. لقد حذر سوريّون من «المقدّس» قبل نشوء الأحداث. وخلال وصفه النجاة من مشهد «الذبح» الذي يمارسه «جنود الله»، ختم الكاتب السوري فواز حداد روايته قائلاً: «كان الموت هكذا حلماً مترفاً ولا أجمل».



نجم «الجزيرة»

قبل شهر تقريباً، كانت قناة «الجزيرة» القطرية قد بثت في إحدى نشراتها الاخبارية تسجيلاً صوتياً لأبو محمد الجولاني مسؤول جبهة «النصرة» في سوريا، أعلن فيه عن تبني الجبهة للهجوم على مقرّ وزارة الداخلية السورية في دمشق، شاكراً التظاهرات التي نزلت في الساحات واستنكرت وضع الجبهة على «قائمة الارهاب». وطالب الجولاني بتوفير الامن والفصل بين النزاعات، لأنّه ــ بحسب تعبيره ــ فإنّ مرحلة انهيار السلطة تترك فراغاً و«أنتم خير من يملأه»، داعياً أفراد الجبهة إلى ألّا يقتصر ولاؤهم على افراد الجماعة فحسب، لانهم ليسوا حزباً سياسياً.