القاهرة | وتقييد الفقهاء»، «الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة»، «نحو فقه جديد» مؤلفات كثيرة أصدرها المفكر الإسلامي جمال البنا وأثارت جدلاً كبيراً لتصادمها مع معظم التيارات الفقهية السائدة. شقيق حسن البنا مؤسس «جماعة الإخوان المسلمين» الذي رحل فجر أمس الأربعاء عن عمر ناهز 93 عاماً في أحد مستشفيات القاهرة، شيِّع عصر أمس من «مسجد علي بن أبي طالب» في الدقي.
البنا الذي كان مقرراً أن يلقي محاضرة ضمن ندوة تتناول «مستقبل الفكر الديني في مصر» في «المجلس الأعلى للثقافة» في القاهرة في نهاية شهر شباط (فبراير) المقبل، اشتهر بمخالفته للتيارات الإسلاموية التقليدية. وعلى رغم أنّ فتاواه عن جواز التدخين للصائم، وجواز الزواج من دون شهود أو وليّ من أبرز الفتاوى التي أثارت «ضجة» إعلامية واحتلّت عناوين الصحف، إلا أنّ موقع المفكّر الإسلامي يتعدّى هذا المستوى. لقد طرح الراحل رؤية تقدمية عن الحجاب، مؤكداً أنّ شعر المرأة ليس عورة ولا يوجد أبداً في الكتاب والسنة ما يقول ذلك. واستدل بذلك على حديث في «صحيح البخاري» يفيد بأنّ الرجال والنساء كانوا يتوضؤون في عهد الرسول من حوض واحد في وقت واحد، وهو الأمر الذي استمر طيلة حياة النبي ومن بعده حتى مجيء عمر بن الخطاب الذي فصل بين الرجال والنساء خلال الوضوء.
حارب البنا ما عرف بحدّ الردة في الإسلام. فقد أصدر «حرية الفكر والاعتقاد في الإسلام» (1972) ثم «كلا ثم كلا.. كلا لفقهاء التقليد وكلا لأدعياء التنوير» (1994)، و«خمسة معايير لمصداقية الحكم الإسلامي» (1996)... أعمال أكّدت أنّ لا عقاب لمرتدّ عن الإسلام، فثبوت الحرية الدينية للمرتد مكفولة، وعليه ليس هناك فرق في الدعوة بين المرتد، ومن لم يسبق له إسلام، فـ «كل منهما يدعى إلى الإسلام بالتي هي أحسن، وكل منهما يُكتفى بدعوته مرة واحدة، ولا يلزم في المرتد أن يستتاب أبداً» كما ذهب إليه الأصوليون وغيرهم ممن يقول بالاستتابة الدائمة، محاولاً إثبات الحرية الدينية بأدلة عقلية ونقلية تقبل النقاش كمسألة عامة ومطلقة لا تقييد فيها. واعتمد في منهجيته على النظر في نصوص القرآن، وسنة الرسول وعمل الصحابة. أما الفقهاء، على حد قوله «فليس لنا معهم كلام» على حد كلام البنا.
«التصادم مع الرأي العام» من وجهة نظر أستاذ الفلسفة الإسلامية في «جامعة القاهرة» علي مبروك، ربما كان أمراً مقصوداً من قبل جمال البنا، حتى «يلفت الانتباه إلى آرائه وكتاباته، فإذا ما ذهبنا إلى كتاباته وجدنا صاحب آراء في قضايا كبرى بعيدة عن الجزئيات التي تثير الزوبعات. وهي خطوة إستراتيجية تهدف إلى توجيه الأنظار إليه وإلى كتاباته». وأكّد مبروك أنّ البنا كان «يقدم آراءً بعيدة تماماً عن أطروحات الإسلام الشعبوي الذي لا يعمل العقل في اجتهاداته».
«يمكن تلخيص مسار اجتهادات البنا في ثلاثة أهداف، تتمثل في تجديد الفقه، وتخليص الفكر الإسلامي من العنعنة والنقل التي أثقلته طوال تاريخه عبر ما كان يسمّيه البنا «قبيلة حدثنا»». والهدف الأخير من وجهة نظر مبروك هو وضع حدود فاصلة بين الدين والسياسة، خصوصاً في الآونة الأخيرة التي يجري فيها استدعاء الدين في الشأن العام في كل كبيرة وصغيرة. وحول هجوم الإعلام على البنا، كما حدث حين اتهمه المذيع عمرو الليثي بـ«الديوثية»، أوضح مبروك أن بعض شرائح «المدنيين» المصريين فاقدة العقل والاستنارة، و«لا فرق بينها وبين التيارات الأصولية سوى في الكمّ لا الكيف، وتبدو أنها أقل تطرفاً لكنها تقليدية في بنية تفكيرها، وترى الاجتهاد شذوذاً لا يجب أن يكون».
من جهة ثانية، رأى المفكر الإسلامي أسامة القوصي أنّ البنا يعد ظاهرة كناية عن ردة فعل لما رآه من التيارات الأصولية والراديكالية على رأسها «جماعة الإخوان المسلمين» التي أسسها شقيقه الأكبر حسن البنا. و«لما رأى منهم ما هو مخالف للإسلام ولا يمت للدين بصلة، ذهب إلى ما يمكن تسميته «العقلانية المفرطة»، واضعاً نصب عينه: صحيح المنقول لا يتعارض بالضرورة مع صريح المعقول». وبالتالي بدأ في عمليات التأويل من أجل توافق «النص» مع العقل، وهو المقدم عنده، ما يجعله امتداداً للفكر المعتزلي القديم.
ويضيف القوصي أنّ من غير المنهجي أن نختصر جهود البنا في فتاوى غريبة أو تصادمية. لدى الرجل أكثر من أربعين مؤلفاً، كما أنّ «الذين أسقطوا عنه حق التفكير في الدين مخطئون، وأنا أتفق معه في أن البحث في مسائل الدين والفكر الديني لا يقتصر على رجال الأزهر أو ممن ينتسبون إلى مجال التخصص فحسب». وأشار إلى أنّ صاحب كتاب «العودة إلى القرآن» حارب في بحوثه وكتبه الجمود الذي أصاب النص الديني برؤى الخوارج قديماً وحديثاً. أما الباحث عبده إبراهيم المتخصص في الفكر السياسي الإسلامي، فقد رأى أنّ البنا ترك علامة فارقة في حقل الإسلام السياسي بغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معه. لقد كان يمثل لدى قطاع معين في الحياة السياسية المصرية وتحديداً نشطاء حقوق الإنسان، مرجعيةً دينية من خلال تبنيه رؤى الإسلام الحداثي ومفاهيمه وقيمه ونظرياته و«الكثير مما قدمه في هذا المجال أثار الجدل وخلق حالة من النقاش وهو أمر مطلوب وضروري سواء للمؤيدين له أو المختلفين معه».
على الرغم من بلوغ جمال البنا 93 عاماً، إلا أنّه ظلّ متابعاً للوضع السياسي والفكري العربي، وخصوصاً المصري. ظلت علاقته بـ«جماعة الإخوان المسلمين» التي أسسها شقيقه حسن البنا عام 1928، متوترة طوال الوقت، حتى وصل الأمر ببعض أعضائها إلى إنكار نسب المفكر الراحل بشقيقه مؤسس الجماعة، كما رمته بعض التيارات السلفية بالكفر والإلحاد ومعاداة الدين، مثلما حدث على شاشة قناة «الناس» السلفية في آذار (مارس) 2010.
أما البنا الذي أيّد ترشيح محمد البرادعي لرئاسة الجمهورية في 2009، فقد شهد موقفه من الجماعة الكثير من المد والجزر. بعدما ظل يردد أن قيادات الإخوان قد خالفوا فكر ومنهج «الإمام» الذي كان تربوياً في الأساس، واصفاً القيادات الإسلاموية بـ«طامعي السلطة»، تراجع موقف المعاداة نسبياً من الجماعة. في حوارين مع جريدتي «الشرق الأوسط» و«إيلاف» في حزيران (يونيو) وتشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، طالب البنا من المصريين «إمهال الرئيس محمد مرسي فرصة لتحقيق أهداف برنامجه».



عن دولة الخلافة والعلمانية

في آخر حوار أجراه معه موقع «اليوم السابع» قبل الانتخابات المصرية، ردّ جمال البنا على من ينادي بقيام دولة الخلافة الإسلامية قائلاً: «دول ناس بيحلموا، ومتخلّفين. التفكير في إعادة الماضي حماقة، فدولة الخلافة انتهت عندما حوّلها معاوية بن أبي سفيان إلى مُلك عضوض. ورأينا في عهده صوراً من الإرهاب، والقهر والموبقات». أما عن الذين يحذّرون من قيام دولة علمانية تحكم مصر وتوجّهها أكثر صوب أميركا والنموذج الأوروبي، فقال: «أنا مع دولة مدنية، لأننا نعيش عصر الحضارة الغربية. أنت تعيشه «غصب عنك»، فأنت لم تخترع طائرة، كل ذلك إنجازات الحضارة الأوروبية. لكن تستطيع أن تقول إن الحضارات السابقة أسهمت في الحضارة الأوروبية، فالخوارزمي «عمل الجبر». ولولاه، لما كان الإنترنت. وقد ساهم العرب والمسلمون في تعريف أوروبا التي كانت خارجة من الظلمات، على العلوم المختلفة».