كل على طريقته، يسترجع شريط «لينكولن» لستيفن سبيلبرغ، والمرشح لـ 12 جائزة «أوسكار»، والمرشح الآخر لأكثر من جائزة أوسكارية «دجانغو الطليق» لكوينتن تارانتينو، حِقبة مهمة وعصيبة من تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. ما يجمع الشريطين، هو ذلك الفصل العصيب والعنيف وما شهده من صراع إرادات سياسية واجتماعية وفكرية عُمِّدت بالدم.
الخيط الرابط بين الشريطين يتعلق أساساً بـ«العبودية»، ذلك الموضوع المؤرق والمثير للجدل منذ أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. منذ تلك الفترة المضطربة، استعار سبيلبرغ، ومثله تارانتينو موضوعاً ظل مؤرقاً لأجيال كاملة، أو بما يمكن وصفه بـ«التابو». يقتفي سبيلبرغ الأشهر الأربعة الأخيرة من حياة لينكولن (1809 ــ 1865) التي شهدت تحدياً كبيراً للرئيس السادس عشر، متمثلاً في لملمة مآلات تلك الحرب بين الولايات الشمالية «الليبرالية»، إن صحّت التسمية، والولايات السبع «المتزمتة» الجنوبية. ومثلما كان على الرئيس المنتخب لولاية ثانية مواجهة إعادة الثقة بنظام الكونفدرالية الأميركي، كان عليه أيضاً أن يواجه تحدياً لا يقل أهمية عن الأول، تمثل في إمرار قانون إعلان إلغاء العبودية. ذلك أنّ حياة الرئيس لينكولن ــ كما يعرضه سيناريو الشريط الذي كتبه توني كوشنر ــ هي محاولات بدت أقرب إلى ليّ الأذرع مع أعضاء طاقمه الحكومي من جهة، ومع خصومه السياسيين من جهة ثانية. نتابع هنا العقبات السياسية والاجتماعية والقانوية، والصفقات التي كان على وزير الخارجية وقتها وليم سيروارد (ديفيد ستراثايرن) أن يذللها بصفقات وراء الكواليس، ومن خلال الاستعانة بخبرات النواب الشرسين من أمثال جون هاوكس، وتيم بليك نيلسون، وجيمس سبادر، وصراعهم المرير في مجلس النواب لإمرار إعلان الرئيس بأي وسيلة. وكان رأس حربتهم المشرع ثاديوس ستيفنس (أداء رائع لتومي لي جونز) المدافع العنيد والمتحمس لإلغاء العبودية، ما يدفع النائب فيرناندو وود (لي بيس) إلى الانفجار وسط فوضى المجلس والشتائم المتبادلة بين أعضائه.
لكي يخرج المشاهد من تلك النقاشات العاصفة، كان على سبيلبرغ تطعيم شريطه بلقطات من أرض المعركة، حيث يتولى الجنرال أوليس غرانت (جارد هاريس) مباحثات السلام. فيما أبقى المخرج الرئيس لينكولن (دانيال داي لويس) قابعاً في مكتبه في البيت الأبيض حيناً، وبين خطاباته المتعلقة بالدستور والقوانين المتفرعة عنه في الكونغرس حيناً آخر. لم يغفل المخرج حياة الرئيس الشخصية عبر المرور بعلاقته بزوجته (أداء سالي فيلد) وابنه البكر (أداء جوزيف غوردن ــ ليفيت) لإضفاء مسحة إنسانية على محرر «العبيد» الذي دفع حياته ثمناً لقناعة ما زالت أميركا الحديثة تعيش تفاصيل استحقاقاتها. لقد تصدى سبيلبرغ لـ«أسطورة رئيس الرؤساء» عبر فيلم تاريخي يخاطب الذكاء ويرصد نضاله الملحمي في واشنطن من أجل إلغاء قانون العبودية في أداء رائع لدانيل داي لويس الذي يستحق جائزة أوسكار ثالثة عن تجسيده شخصية الرئيس الأميركي.
على عكس صاحب «جوراسيك بارك»، يذهب كوينتن تارانتينو إلى تقديم فيلم تاريخي بأسلوب لاواقعي، مازجاً بين الكلاسيكية والحداثة، موجهاً تحية إلى السينما الإيطالية وصنّاع أفلام الـ Spaghetti Western على رأسهم سيرجيو كوربوتشي (فيلم «دجانغو» للسينمائي الإيطالي 1966) و Blazing Saddles لميل بروكس. لم يتتبع مخرج «اقتل بيل» ذلك المفصل التاريخي المهم، بل حاك حبكة شريطه بخفة أثارت ــ وما زالت ــ ردود فعل صاخبة وعنيفة في الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية. اتُّهم تارانتينو بصنع «محاكاة ساخرة وفاقعة» من موضوع جدي هو العبودية. حتى إنّ المخرج الأميركي سبايك لي كتب على حسابه على تويتر: «العبودية في الولايات المتحدة لا تشبه أفلام الـ«سباغيتي الويسترن» على طريقة سيرجيو ليوني. لقد كان هولوكوست، وأجدادي كانوا عبيداً». «دجانغو الطليق» يحوي كل مكوّنات سينما تارانتينو: جرعات عالية من العنف، وسخرية، وكاريكاتورية فاقعة، وفكاهة، وإحالات إلى أفلام وسينمائيين ومرجعيات كثيرة وتحيات مخبأة هنا وهناك في ثنايا العمل من بينها تحية إلى الكسندر دوما وأوروبا، وموسيقى تصويرية مذهلة (بلوز، هيب هوب، كلاسيك، فولك...).
في «دجانغو الطليق»، يتابع المشاهد مطاردات تعود فصولها إلى عام 1858 قبل سنتين من الحرب الأهلية الأميركية من خلال طبيب أسنان ألماني سابق مثقف ذي شخصية ساحرة وفريدة يدعى كينغ شولتز (كريستوف وولتز) يتحول إلى صائد طرائد. يشتري شولتز حرية «العبد» دجانغو (جيمي فوكس) الذي كان ضمن مجموعة من «العبيد» الذين يباعون في مزاد علني في ولاية تكساس. يصبح دجانغو صائد طرائد أيضاً، وينخرط الاثنان في رحلة لتحرير زوجة دجانغو (كيري واشنطن) التي يشتريها صاحب مزرعة قاسٍ يدعى كالفن كاندي (ليوناردو دي كابريو). فريق ممثلين مذهل، وخصوصاً دي كابريو الذي يتجاوز نفسه في كل عمل ومشاهد ومطاردات وديناميت في الغرب الأميركي وفكاهة معطوفة على الضخامة في الإخراج. مع ذلك، فإنّ تارانتينو لم يستخف بجدية الموضوع المطروح (العبودية). تمثل ذلك في مشاهد قوية وعنيفة للمصير الذي يلقاه «العبد» حين «تنتهي صلاحيته» كمشهد الكلاب التي تنهش أحد «العبيد» في الفيلم، أو السلاسل والأغلال التي ينوء بعضهم تحتها، أو مشاهد الـ«ماندينغو» الأشداء (مسابقة تقضي بتقاتل «عبدين» حتى الموت). اللافت في العمل شخصياته المركبة، وخصوصاً جيمي فوكس الذي نرصد تحولاته من «عبد» يرتجف تحت البرد إلى «كاوبوي» قاسٍ يركب حصانه ويقتل سامويل آل جاكسون الخادم الأمين والوفي عند كاندي. جسّد جاكسون شخصية الخادم الأسود الذي يتعاطى مع «العبيد» بمنطق الرجل الأبيض، إنّه ضد عرقه وبني قومه، تبنّى لغة الجلاد وسلوكه، لكنه يلقى حتفه على يد دجانغو.
من المآخذ التي وجِّهت إلى تارانتينو أنّه جعل الثأر الأعمى رداً وحيداً على عبودية الرجل الأبيض. في أحد المشاهد التي يعرض فيها شولتز على دجانغو العمل معه صائدَ طرائد، يجيب: «أقتل البيض وأحصل على مكافأة مالية؟ هل هناك أروع من ذلك؟!». لكن نقاداً آخرين دعوا إلى التعامل مع الشريط عبر إفساح مكان لفن الاستفزاز الذي اشتهر به تارانتينو، فـ«مصدر الإزعاج أنّ تارانتينو أراد أن يصدم المشاهد تماماً كما فعل مع Inglorious Bastards» وفق ما قال جان ماري فيفالدي من «معهد الدراسات الأميركية الأفريقية» في «جامعة كولومبيا».

* Django Unchained: «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» ( 01/616600)، سينما سيتي» (01/8999993)
* «لينكولن»: ابتداءً من 31 ك2 (يناير) في الصالات اللبنانية



مصدر الإلهام

في إحدى مقابلاته، قال كوينتن تارانتينو إنّ مصدر وحيه الرئيسي في فيلمه «دجانغو الطليق» كانت أفلام «نيفادا سميث» (1966) لهنري هيثواي، و«يوم الغضب الأخير» (1967) لتونينو فاليري، و«الرجل بلا نجمة» (1955) لكينغ فيدور: «في هذا النوع من الأفلام، هناك عملية التعلم والتحوّل. هذه العلاقة ألهمتني كثيراً، وخصوصاً في الجزء الأول من شريطي حين تتعارف شخصيتا كريستوف وولتز وجيمي فوكس قبل أن يخوضا رحلتهما المشتركة».