«السينما مقبرة حيّة» وصف مرة ألان رينيه الفن السابع. عميد المخرجين الفرنسيين تحتفي به جمعية «متروبوليس» بالتعاون مع «المعهد الفرنسي في لبنان»، في تظاهرة استعادية انطلقت أمس في «متروبوليس أمبير صوفيل». من خلال تسعة أفلام من أعمال المعلم الكبير (1922)، يمكن المشاهد الاطلاع على تجربة رينيه التي يجري الاحتفاء بها «لالتزامه بالحداثة واسهاماته الفنية والاستثنائية في تاريخ السينما».
أحد أبرز وجوه الموجة الفرنسية الجديدة لم يكن ضمن نقاد مجلة «دفاتر السينما». أسلوبه يبتعد عن زملائه في الموجة، فقد حُسب على مجموعة «الضفة اليسرى» التي تميزت بالتزامها بالحداثة والخط السياسي اليساري، مع زميليه كريس ماركر وأنييس فاردا. الذاكرة والزمن ثيمتان دائمتا الحضور في أعمال رينيه. وبالاعتماد عليهما، بنى مسيرته السينمائية بطرق سردية حداثية ومتجددة. «أبحث دائماً عن لغة خاصة غير واقعية وموسيقية». إنّه مخرج تجريبي بامتياز، أغنى الصورة السينمائية بحفّها بالأجناس الإبداعية الأخرى من الأدب، والمسرح، والموسيقى والرسم، وحتى الرسوم المتحركة. وتهجس أعماله بالموت والأشباح، أكان من خلال شخصياته (فيلم «العام الماضي في مارينباد») أو من خلال استعارة من التاريخ (هيروشيما حبيبتي).
بعد عمله في المونتاج في الأربعينيات، أخرج أعمالاً قصيرة عدة، قبل أن ينتقل الى السينما الروائية. في الشريط الوثائقي القصير «التماثيل تموت أيضاً» (1953 ــ 22/1) الذي أخرجه مع زميله الراحل كريس ماركر، يستكشف الاثنان الفن والثقافة الأفريقية وكيفية تلقيهما عند الاستعمار والكولونيالية الأوروبية. هنا، اتخذ البحث ثيمة رئيسية كي يمسي العمل أنثروبولوجيا سينمائية تحمل الهم السياسي من نقد للحضارة الغربية. رغم حصول الشريط على «جائزة جان فيجو» عام 1954، إلا أنّ رقابة فُرضت عليه في فرنسا بسبب نقده الكولونيالية الفرنسية، وحُظر نصف الشريط الثاني لأكثر من عقد. عام 1956، أخرج رينيه شريطه الوثائقي القصير «ليل وضباب» (22/1) أحد أول الأعمال التي تناولت فظائع معسكرات الاعتقال النازية. يعود رينيه في الشريط إلى معتقلي أوشفيتز وماجدانيك بعد عشر سنوات من تحريرهم، ليصور بعدسته أبنيتهم الفارغة، منتقلاً أيضاً إلى العهد النازي باستخدام اللقطات الأرشيفية، ليخرج بوثيقة تدين تاريخ النازية وفظائعها. لم يسلم الفيلم أيضاً من الرقابة، بل حاولت السفارة الألمانية منعه من العرض في «مهرجان كان». بعد النازية، انتقل رينيه ليضع كارثة أخرى خلفيةً لمشروع آخر. في 1959، أخرج أحد أهم أعماله «هيروشيما حبيبتي» (21/1) وأحد أبرز أفلام الموجة الفرنسية الجديدة. يحكي العمل، الذي كتبت له السيناريو الكاتبة والمخرجة الفرنسية الشيوعية مارغريت دوراس، قصة علاقة ممثلة فرنسية ومعماري ياباني أثناء تصويرها فيلماً ضد الحرب في هيروشيما من خلال محادثة طويلة، يتناقش فيها الاثنان عن الحرب والذاكرة والنسيان. استخدام رينيه الـ «فلاش باك» كي ينتقل بين الحاضر والماضي والذاكرة كان ثورياً، ما وضعه والفيلم في مكانة ريادية، قبل أن يعود عام 1961 في سيناريو لألان روب غرييه رائد الرواية الفرنسية الجديدة، إلى ثيمة الذاكرة والنسيان. في لغزه الجدلي الشهير «العام الماضي في مارينباد» (23/1) علاقة محيرة أخرى بين رجل وامرأة ربما التقيا مسبقاً. يتنقل بنا رينيه بين الماضي والحاضر والحلم، في محاولة لاستكشاف هذه العلاقة من خلال الـ «فلاش باك» والتنقل عبر الزمن، مثبتاً مكانته المؤثرة في سينما الحداثة، من خلال السرد التجريبي للفيلم. انتقل بعدها إلى الخيال العلمي في «أحبك، أحبك» (1968 ــ 24/1)، حيث اختار رجلاً لتجربة آلة زمن فيعلق في الماضي ويعيد استكشافه من دون ترتيب. في «ستافيسكي» (1974 ــ 25/1)، يترك رينيه تجريبيته ليروي في هذه الدراما السياسية قصة المختلس الفرنسي اليكساندر ستافيسكي وعلاقته الفضائحية مع النخبة المالية والتجارية حتى وفاته الغامضة.
السينمائي المسكون بالموت استحق لقب أحد آباء الحداثة الأوروبية في الفن السابع، على غرار روسيليني، وبرغمان وأنطونيوني، وما فتئ ينبش في التاريخ، والذاكرة، والحلم، والحزن، مستنبطاً كل مرة أسلوباً جديداً، حتى وصفه مرة الممثل الفرنسي بيار أرديتي الذي شارك في الكثير من أعماله: «ليس هناك ما هو أبعد من فيلم لألان رينيه إلا فيلم آخر لألان رينيه»! صحيح «لم تروا شيئاً بعد» وفق عنوان آخر أفلام رينيه الذي عرضته «متروبوليس» أمس.

«تظاهرة استعادية لألان رينيه: الذاكرة والخيالي»: حتى 30 ك2 (يناير) ــ «متروبوليس أمبير صوفيل» ــ جميع العروض عند الثامنة ـــ للاستعلام: 01/204080



«عمي» والآخرون

على برنامج تظاهرة «متروبوليس أمبير صوفيل» أيضاً، نشاهد فيلم «عمي الأميركي» (26/1) الحاصل على الجائزة الكبرى في «مهرجان كان السينمائي» عام 1980. يستكشف ألان رينيه هنا السلوك النفسي البشري انطلاقاً من نظرية الطبيب والكاتب هنري لابوري.
وفي عام 1986، اقتبس رينيه مسرحية هنري بيرنشتاين «ميلو» (27/1) عن علاقة تربط بين رومين وعازف الكمان مارسيل. ومن الميلودراما، ينتقل رينيه في «الأسطوانة القديمة نفسها» (1997 ــ 28/1) إلى الكوميديا والسينما الموسيقية، ليحكي قصة أوديل، التي تبحث عن شقة وشقيقتها كاميّ التي تقع في حب مارك، الوكيل العقاري لأوديل. ويستعيد الشريط أبرز الأغنيات الفرنسية الشعبية. وفي «قلوب» (2006 ــ 29/1)، يقتبس نصاً مسرحياً مرة أخرى عن ست شخصيات في باريس، وعن رحلة بحثها عن الحب.