القدس | «الوداع يا مكتبتي! لست أدري ما حلّ بكِ بعد مغادرتنا البلاد، أَنُهبتِ؟ أَحُرقتِ؟» هكذا ودّع الأديب والمربّي خليل السكاكيني كُتبه التي تركها في منزله في حي القطمون (جنوب غرب القدس)، قبل أن يحتله الجنود الصهاينة عام 1948؛ وينهبوا 30 ألف كتاب آخر من بيوت الفلسطينيين المُهجّرة في القدس الغربية، إلى جانب 40 ألف كتاب نهبت من مدن حيفا ويافا والناصرة والرملة وبلدات أخرى.
الفيلم الوثائقي «السرقة العظمى للكتب» (The Great Book Robbery ــــ 57 د ـ 2012) للمخرج الإسرائيلي الهولندي بيني برونر الذي عُرض أخيراً في «مركز خليل السكاكيني الثقافي» في القدس يضيء على النهب المنهجي لكتب الفلسطينيين، من قِبل «مكتبة إسرائيل الوطنية»؛ وهي مؤسسة صهيونية قديمة تأسست عام 1892، قبل أن تصير جزءاً من الجامعة العبرية عام 1920.
رمز AP هو ما أعطته «مكتبة إسرائيل» لستة آلاف من هذه الكتب المنهوبة الموجودة اليوم على رفوفها الحديدية. وهما حرفان مختصران لـ Abandoned Property؛ وهذه الأملاك الفلسطينية المهجورة بما فيها الكتب، تخضع لسلطة جهاز يسمى «حارس أملاك الغائبين» الذي أُنشئ عام 1950. في الفيلم، يظهر المؤرخ الإسرائيلي المعروف بقراءته النقدية للأسطورة الصهيونية إيلان بابيه ليقول: «منذ احتلال البيت، كان هناك نوعان من النهب: النهب الفردي؛ وبعد ساعات معدودة يظهر الناهبون الرسميون». وهؤلاء «الرسميون» هم أُمناء «مكتبة إسرائيل» التي نظّمت فرقة تعمل مع الجنود الصهاينة الذين «اكتشفوا» أنّ بيوت الفلسطينيين في القدس الغربية لم تكن تحتوي على الأثاث والآلات الموسيقية واللوحات فحسب، بل أيضاً على الكتب التي اختلفت مواضيعها: من الأدب والقانون وتفسير القرآن، إلى الترجمات والأدب العلمي والتاريخ والفلسفة».
لكن لماذا أُعطيت الكتب رمز AP؟ تقول الوثائق في الشريط «إنّها وديعة وسيتم إرجاعها إلى مالكيها»، قبل أن تشترط لاحقاً «حين يعود مالكوها». هذا الكلام جزء من البروباغندا الإسرائيلية في الدفاع عن عملية النهب: اعتنينا بالكتب وحافظنا عليها من الضياع. لكن ما تشير إليه وثائق «مكتبة إسرائيل» الأخرى تفضح هذه البروباغندا، وتكشف عن أهداف أخرى وراء عملية النهب. يتباهى قسم الاستشراق في إحدى الوثائق بأنه «يفوق أي مؤسسة في الشرق الأدنى تمتلك ثروة من الكتب». وفي أخرى تقول: «إذا أُعطيت هذه الكتب للمكتبة الوطنية، فإن كمية الأبحاث ستزداد. في البداية، نحن مهتمون جداً بالأدب (العربي) الكلاسيكي». ويُعلّق المؤرخ بابيه على هذا قائلاً: «لا يهم إذا حفظت الكتب بشكل جيد، أو جلّدت بشكل جميل، أو ساهمت في غنى المعلومات عن تاريخ البلد، لقد تم النهب لهزيمة السردية الفلسطينية؛ وهذا جزء من الإنتاج الاستشراقي للمعرفة الذي يشوّه العرب والإسلام، ويمحو فلسطين من التاريخ. لست مدهوشاً من أي اهتمام بالكتب، إذا افترضنا وجود اهتمام، هذه جريمة»، مؤكداً أنّ «الاستملاك ومصادرة الممتلكات المعنوية لا يختلفان عن استملاك الأرض والموارد الطبيعية. تريد كل شيء ما عدا أمر واحد: الناس أنفسهم».
في الفيلم أيضاً، يحكي الكاتب الفلسطيني محمد البطراوي قصة عن النهب الذي طال فلسطين؛ وكيف أمر الحاكم العسكري في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1948 الأهالي بالتجمع في ساحة السوق في قريته أسدود. «اقتادوا الرجال أسرى حرب. كنتُ في مجموعة رقمها 37، وأعطوني رقم 67004»، يحكي البطراوي «أمضينا أربعة أيام في الرملة وبلدات أُخرى لا أعرفها، وكنّا نجمع الأثاث بما فيها الكتب من البيوت المُهجّرة. لم نكن نعرف أين تذهب بها الشاحنات، واعتقدنا أنهم سيُتلفونها، لأنهم لم يهتموا بطريقة وضعنا الكتب في الشاحنة». الكاتب والصحافي المقدسي ناصر الدين النشاشيبي الذي نُهبت مكتبته الشخصية، أراه أُستاذ في الجامعة العبرية بعد سنوات كتاب «المَكرميات» الذي أهداه إياه كاتبه أحمد قاسم عبيد عام 1945. يتألّم النشاشيبي على نهب كتبه «التي لا تقارن بالكنوز الأدبية التي نهبت من بيت عمي الأديب إسعاف النشاشيبي، ومنها نسخة من القرآن مزيّنة بماء الذهب» يقول. وتحكي الكاتبة الفلسطينية غادة الكرمي التي رحلت عن حي القطمون مع أهلها وهي في الثامنة من عمرها، قصة والدها الأديب والإعلامي حسن الكرمي، المختص باللغة والألسنيات. كانت تراه يجلس خلف مكتبٍ تتكدّس فوقه الكتب، منكبّاً على العمل على قاموس إنكليزي عربي، وقد قطع فيه أشواطاً، لكن في عام 1948 ترك بيته وكتبه والقاموس غير المنجز.



في أرشيف الهاغاناه

في شريط «السرقة العظمى للكتب»، يتحسّر شلومو شونامي المسؤول عن «جمع» الكتب في «مكتبة إسرائيل» في تقرير كتبه، على مجيء الأمناء والجنود الصهاينة متأخرين إلى البيوت التي نهبها المستوطنون، «حيث يصعب تقدير كمية وجودة الكتب التي بدّلت مالكيها بطريقة غير قانونية»! بين نيسان (أبريل) عام 1948 وكانون الثاني (يناير) عام 1949، نُهب 30 ألف كتاب من بيوت الفلسطينيين في القدس. لكن عملية النهب الممنهج لم تطَل الكتب فحسب، بل الممتلكات الثقافية الفلسطينية عموماً. الباحثة الإسرائيلية في تاريخ التصوير رونا سيلع، عثرت على صورٍ للمصوّر الفلسطيني خليل رصاص في أرشيف الهاغاناه والجيش الإسرائيلي. رصاص الذي كرّس عمله لتوثيق المقاومة الفلسطينية، ووثّق معركة القسطل التي خاضها القائد عبد القادر الحسيني، نُهب الاستديو الذي ضمّ أعماله في القدس عام 1948.