«يا قديسة مريم، صلّي لأجلنا، يا والدة الله، يا أماً مصلوبة، يا أما ثكلى، يا أماً مطعونة بالحربة، يا أماً مصلوب قلبها، يا أماً مغمومة، يا ينبوع البكاء، يا جبل الحزن، يا صخرة الثبات، يا مرسى الاتكال، يا ملجأ المتروكين، يا ترس المظلومين». هكذا، تصير الصلاة في رواية «يا مريم» (دار الجمل) للكاتب والمترجم العراقي سنان أنطون (1967)، تتحوّل إلى بوصلة لحيارى العراق المتروكين لمصير من الحقد الأعمى، والأمل الذي تستشعره أفئدتهم في الصلاة كردّ وحيد على كراهية القَتَلة. العمل المرشّح لـ«جائزة بوكر» العربية، يستعيد حوادث تفجير طاولت كنائس العراق في عام 2010، وتحديداً تفجير كنيسة «سيدة النجاة» في وسط بغداد، بينما تتحول مريم إلى معادل لعراق يوحّد المسيحيين والمسلمين. ينتمي بطلا الرواية يوسف ومها إلى جيلين مختلفين. هنا يحكي صاحب «إعجام» عن يوم من حياتهما، وكيف ينتهي بقداس جنائزي في ذكرى وفاة شقيقة يوسف. لكنه يوم متوتر يتشاجر فيه البطلان. مها ترى أنّ العنف موجه أساساً ضد أبناء الديانة المسيحية، بينما يرى يوسف أنه موجه ضد الجميع.
يستمد المتخيل الروائي من الواقع الذي يتمثّل في تفجير الكنائس، لكنه ينحت شخصيات الرواية بطريقة أقرب إلى الحقيقة. يوسف ومها مثالان على الآلام الفردية التي يحملها كل منهما، فدرب الجلجلة يبدأ من الاحتلال ويمرّ بالطائفية ليصل إلى التشرد المستمر.
من جانب آخر، تبدو شخصيتا يوسف ومها مختلفتين، فالبطل في عمر متقدم خبر الحياة، وعايش أزهى تواريخ البلد، وشهد على زمن لم يستبح فيه الدم بالقدر الذي نعيشه الآن. أما البطلة فشابة، لم يصلها من الحياة سوى الحصار والقتل والقصف المستمر، وهي تقيم في بيت عجوز بعدما فقدت جنينها وزوجها. لكنها إقامة مؤقتة وعابرة، فهي تنتظر مع يوسف تأشيرة للرحيل من البلد. لكن يوسف يصرّ على إنهاء أيامه على أرض النخيل التي عشقها، ويؤمن أيضاً بأنّ غداً أفضل آتٍ على البلد. هكذا، يفرد الكاتب الحيّز الأكبر من روايته ليوسف، فيما تتمكن أحداث الرواية من الخروج من الفضاء (بغداد 2010) والزمان (يوم القداس)، لتقفز برشاقة بين الأزمنة والأمكنة على طريقة الفلاش باك. يعود يوسف إلى ماضيه وينبش فيه. نكون أمام ألبوم صور يقدم أفراد العائلة الآخرين، فيتحسر على من رحلوا إلى أماكن أخرى، وتوزعوا عبر العالم، ولم يعد يربطهم به إلا اتصالات هاتفية ورسائل إلكترونية. لغة سنان أنطون محايدة. لكنها تتلمس الآلام بشفافية من دون أن تنكأها. يصير التحلل والانحدار نحو العنف الذي يعيشه البلد أشبه بفيلم تسجيلي. حياد ذكي يقدم به هذه الفوضى والتمزق الذي يعيشه كثيرون في البلد. لكنها لغة شعرية في الكثير من الأحيان، تصير كما الهمس وهي تستدعي مريم العذراء. أم المسيح والنبي عيسى التي تمثل الأم التي ترعى ابنها وتحفظه من كل شرّ إلى أن يصير رجلاً يغيّر التاريخ.
مريم في العمل الروائي هي من هزت جذع النخلة، فأسقطت عليها رطباً جنياً، وهي مريم المسلمة، والشفيعة أم المسيح. إنّها القاسم المشترك الذي يحاول كثيرون الهروب منه ونكرانه كأنه لم يكن. هي الآن والأمس حين كان يوسف ورفاقه المسلمون يعيشون تحت سماء بغداد من دون عماء الطائفية، حيث «كل الصلوات ستصل إلى الله في نهاية الأمر، مهما كانت اللغة أو المذهب» كما يأتي في الرواية.
الروائي والمترجم الذي صدرت له أعمال روائية وشعرية عدة، يكشف في «يا مريم» عن حرفية عالية تتجلى في لغة سلسة وصارمة تحقق شاعريتها الخاصة من دون ادعاءات مبالغة، أو مجازات مجانية، أو استعارات ركيكة، ثم إنها تتخلص من كل ميثولوجيات اللغة التي يعاني منها كتاب كثيرون، فيما يتميز البناء الروائي بإدخال القارئ بسرعة إلى عوالم شخصياته وحداثة العراق بتحولاته الاجتماعية والسياسية. ولعلّ هذا ما خولها لتكون أبرز الأعمال الواردة ضمن القائمة القصيرة المرشحة لنيل «جائزة بوكر» العربية هذا العام.
بعد كل هذا، يتساءل القارئ عن كاتب الرواية وأين يجده بين شخصياتها. هل يعيش بالقرب من يوسف الذي أدرك جيداً أن قوانين التاريخ أكبر من هذا الصراع؟ أم إلى جانب مها التي تقرر الرحيل؟ لا تحسم الرواية شيئاً، لكنها تختزل المعاناة بشهادة أمام كاميرا تلفزة تتحدث فيها شابة عن مأساة. وهذه هي قوة النص: في توثيقه لـ«شهادات» فردية على أرض العراق.