«ليمبو»، قد تحيل هذه الكلمة مجازاً إلى المسافة المكانية الفاصلة بين مطرحين، وقد تحيل إلى مسافة تنتصب بين زمنين، زمن سابق بكل ما فيه من دفق للماضي، وآخر حاضر، يوسَم إجمالاً بتفلته العبثي والفوضوي من هوية اجتماعية وثقافية أصيلة. لكن «ليمبو» هلال شومان ليس كذلك تماماً. هو أقرب إلى المنطقة التي يتخبط فيها الفرد بين خيارات متنافرة، وبتعبير أدقّ، بين خيارين متناقضين. هذا ما تفصح عنه شخصيات «ليمبو بيروت» (دار التنوير) الذي ينقسم إلى خمسة فصول مستقلة، ينفرد كل واحد منها بقصّته. استقلالية هذه الفصول قد يوقع بعض القراء في حيرة حيال تصنيف« ليمبو بيروت»، هل هي رواية أم مجموعة قصصية؟ ذلك أنّ شخصياتها لا ترتبط بسياق سردي واحد، فيستحيل هذا الأخير شبه متعثر. بعيداً عن مسألة التصنيف الأدبي، سيجد القارئ حال يشرع في تتبع التفاصيل المعاشة لشخصيات «ليمبو بيروت» أنّها تومض بما أراد هلال شومان أن يهمس به في أذن القارئ. الناس يعيشون في ما يشبه الفراغ، يسيدون ويميدون فيه، وأحياناً، أقدامهم ملتصقة حيث هم في أماكنهم ولا قدرة لهم على مبارحتها، لأنّ الخيارات متعاكسة وقرار السير بإحداها قد يصحّ وصفه بالمجازفة.

سعى شومان إلى جعل المدينة، وخصوصاً بيروت، مسرحاً لهذا «الليمبو»... بيروت، التي تخطو سريعاً باتجاه إحداث قطيعة مع ماضيها. علماً بأنّه ماضٍ لسنا مجبرين على تجميله بجعله آخر متخيلاً على غير حقيقته، وهو ما لم يفعله شومان. لقد ترك للقارئ مهمة الإبحار في ما تكتنزه حركة شخصياته وخلواتها ونوازعها، ليتكشف معها الإيقاع الجديد للمدينة، فيرشح بخليط من الكراهية والرعب والازدحام... والحب. هذا ما حصل مثلاً مع وليد في الفصل الأول بعنوان «الأمير الصغير». يؤجل وليد التفكير في تحوّل بيروت إلى ميدان اقتتال ثانيةً، يتحايل على نفسه ويقنعها بالعكس. يفصح لصاحبه: «عم تحلم. حرب؟ حتكون باهتة. بتزهّق. كل اللي بدو يصير صار بهالبلد. كل اللي حينعمل معمول قبل». لن تلبث هذه الفكرة بالتلاشي، لحظة يقرر وليد الذي يجيد الرسم، أن يخط الرسوم والألوان فوق أحد جدران منطقة الحمراء في صباح اليوم التالي من المعارك التي أرّقت بيروت. «لم يفهم وليد ما حدث. التفت ليجد سلاحاً مصوباً باتجاهه. سأله المسلح عما يفعله هنا بالقرب من مركز الحزب. بقي وليد صامتاً ولم يجب... تساءل عن مصير «الأمير الصغير» في خاتمة القصة، واكتشف أنّه لا يتذكر النهاية على الإطلاق».
حلقة مفرغة تدور فيها شخصيات «ليمبو بيروت». أفق غير مرئي. متاهة كتلك التي يعيشها حسن، إحدى شخصيات الفصل الرابع بعنوان «الأحداث». يحيا حسن في «هذا البلد» الذي لم يفهمه ويفهم كيف ينتقل من النقيض إلى النقيض، وكيف أنّ أهله «يخلقون تلك الأشياء المنظمة داخل الأشياء غير المنظمة (...) كيف أن كل شيء يمشي ويتأقلم ويعيش».
يتخلل كل فصل من «ليمبو بيروت» عدد من الرسوم أنجزت بمشاركة فادي عادلة، ريما براق، جنى طرابلسي ومحمد جابر. رسوم يشعر القارئ أحياناً وفي بعض المواضع كأنها حشرت حشراً، وليست رسوماً خُطّت في مستوى يوازي ما توحي به مضامين الفصول.