بغداد | من جديد، يدخل العراق في أزمة تعيد المخاوف من تكرار سيناريوهات ما حصل من عنف في عام 2006. تلحظُ ذلك في كلام الناس في شوارع بغداد وأمكنتها العامّة، وتضجّ مواقعُ التواصل الاجتماعي أيضاً بتعليقات لمثقفين يطرح بعضها اقتراحات عامّة لتلافي المخاطر التي يُخشى وقوعها، ويفكّك البعضُ الآخر من ردود النخبة، السجال الطائفي في بُعديه السياسي والاجتماعي الذي يجد له مساحة غير قليلة في فضاء الفايسبوك، بكتاباتٍ وقعت في فخّ الـ«مع» أو الـ«ضد».
العراق ونظامه السياسي التوافقي أصبحا على المحك، والثقة بين الفرقاء تُضرب يوماً بعد آخر برصاصة رحمة جديدة، وخريطة الأزمة تبدأ من «فرعنة» زائدة لدى رأس السلطة التنفيذية، فتراه يتصرف كأنّ العراق غيرُ محاط بتهديدات لعلّها تنسفُ ما تبقى من أمل. إذ لا حوار مع الشركاء ولا مهنية في إدارة الدولة ككلّ. «نتذكرُ هنا الوزارات التي تُدار بالوكالة، شخص واحد بخمسة مناصب»، تفضي بنا النتيجة إلى أن نقدّم الخصومَ إلى دول الجوار على طبق من ذهب، كي يتحكّموا بمصائر البلاد ويتدخّلوا في شؤونها.
لكن، هل الخصوم على هذه الدرجة من المظلوميّة والبراءة، ومنها ما نسمعه «أنّ النظام الجديد، مثلاً، أصدرَ حكم الإعدام بحقّ نائب الرئيس طارق الهاشمي بشكلٍ أسرع ممّا أصدره بحقّ الرئيس المخلوع صدام حسين». بالطبع، فإنّ الجواب عن سؤالٍ كهذا يأتيك بلسان مواطنٍ يحمل رؤيةً أخرى إلى معارضة اليوم: «هل على نوري المالكي أن يكنس الشوارع ويتفحّص أسرّة المستشفيات ويتحرّى عن حال الكهرباء؟ لمَ لا نسألُ أولاً الوزراء المعنيين بهذه الملفات، إن كانت تمنعهم معارضة كتلهم تلك من تقديم الخدمة لملايين العراقيّين؟». تقاطعات وآراء متباينة تلمس فيها شيئاً من الانقسام المجتمعي والسياسي بلا شك. يمكن هنا إيراد موضوع «اجتثاث البعث». فريق يرى ضرورة الاستمرار في تطبيق إجراءاته، مقابل رأي يعدّ الإجراء «انتقائياً» يطبّقُ على طائفة دون غيرها.
المثقف وسط هذه المعمعة مُبعدٌ ومنفي. لا أحد يطلب رأيه، حتّى إنّ لجنةً شُكّلت أخيراً باسم «الحكماء» اقتصر أعضاؤها على رجال الدين فقط، وخلت من المفكرين والأدباء والفنانين. ولأنّ المثقف بحسب سارتر «لا يتوافر على توكيل من أحد، ولم يتلقّ وضعه في المجتمع الحديث من أي سلطة، إنّه بصفته تلك، ليس نتاجاً لأي قرار، كما هي حالُ الأطباء والأساتذة»، فليس أمامه في العراق سوى المبادرة والاعتراض والدحض، هذا هو أقلّ ما يمكنُ القيامُ به. وربما عبّرت تعليقات المثقفين العراقيّين في الأيّام الأخيرة عن هذا الوجدان الذي يتحرّكُ، ودافعه الأوّل المسؤولية الأخلاقيّة والوطنيّة في لحظةٍ خطيرةٍ وحساسة يمرّ بها العراق وأهله. الشاعر شاكر لعيبي، يستفهمُ من على صفحته في الفايسبوك، داعياً الى الحديث عن المطمور والمسكوت عنه طويلاً، ولو لمرّةٍ واحدة: «هل سيُنظّم المثقفون العراقيون، و«نقّاد» المثقفين العراقيّين، تظاهرة حاشدة ضدّ الطائفيّة، من جنوب العراق حتّى شماله، بدلاً من هذا السيل اللفظيّ الشاكي، المتباكي الآن على طلوع الطائفيّة الصريح هنا وهناك في البلد؟».
نقطة حرجة وصلنا إليها هي التظاهرات والتظاهرات المضادّة لها. شعارات «رفض» في الأنبار والموصل في مواجهة شعارات «تأييد» في بغداد ومدن أخرى جنوباً. لعلّ ذلك ما دفع بشاعر معروف يقيمُ في بغداد، هو عبد الزهرة زكي، إلى التعليق بمقال جاء فيه: «الحديث عن «ربيع عراقيّ» حديث سخيف، أيُّ ربيع هذا الذي منقسمٌ به الشعب؟ هو ليس ربيعَ مصر أو تونس أو ليبيا. إنّه اقرب إلى الصورة السوريّة التي أمامنا والتي ما زال دمُها يجري».
هكذا، توالت مبادرات المثقفين الهادفة إلى وضع حد لمرض الطائفية البغيض، منها صفحة على الفايسبوك باسم «حملة مناهضة الطائفيّة في العراق»، وجّه أصحابها الدعوة الى حضور وقفة يوم الجمعة المقبل في شارع المتنبي في بغداد، شعارُها «الإنسان قبل العنوان». وبمجرّد تصفّح مواقع نواب ومسؤولين عراقيّين في «الفايس» وقراءة تعليقات أنصار هذا أو ذاك وما فيها من تهديد ووعيد وسخرية وشتائم متبادلة، فإنك ستقرّر مغادرة هذا الفضاء الحداثي الذي يستثمر اليوم للإسهام في تفتيت مجتمع بأكمله، الأمر الذي دعا قسماً من المثقفين إلى إغلاق صفحاتهم مؤقتاً، إلا أنّ آخرين قرّروا التعبير عن احتجاجهم ببضعة أسطر. الناقد والمترجم أحمد الهاشم كتب: «اللغة الرعاعية من كل الطوائف طفح جلديّ. سقمُ أرواح لا تجدُ طوافةً للخروج من عطانة. وليس ذلك مدعاة لتجاهل تلك اللغة الرعاعية، ولكن لفهمها».
وتأتي رسالة الباحث نبراس الكاظمي إلى متشدّدي الطائفتين من السنّة والشيعة، لتكون صادمةً وحادّةً أكثر وابنة لحظة مجنونة تريد للعراق أن يحترق، إذ يقول: «أنتَ وهو تعيشان خارجَ التاريخ، لا كهرباء ولا شوارع ولا مدارس ولا مستشفيات ولا أمن ولا استقرار ولا مستقبل، أنت وهو غبيّان، ومغفّلان، تثيران الشفقة، هو يقولُ لك أنتَ صفوي إيراني مجوسي، وأنتَ تقولُ له أنت تركي وسعودي وقطري، والعراقُ لديكما غائب في المعادلة. نريدُ أن نغنّي، أن نذهبَ إلى السينما أو المسرح، نريدُ أن نسمعَ موسيقى راقية. لكنّنا لا نستطيع، لأنّ جنابك السخيف وجنابه، بكلّ هذا الغباء، قرّرتما أن تسوّدا علينا هذه الحياة». ومن محل إقامتها في عمان، انضمت الروائية لطفية الدليمي إلى كتابات زملائها في أن «كلّ الطائفيّين يكرهون الحياة والفن والثقافة ويحبون الموت والغزو وثارات القبيلة وسفك دم المختلف، ويرشون السم على حاضر الإنسان والوطن». وإذا كان المقهى الافتراضي قد احتوى هذه المواقف، فإن مقهى «أرخيته» في بغداد لم يكن بعيداً عن هذه الحوارات والمبادرات الهادفة الى إنعاش الثقة بالغد، وها هو الشاعر نصير غدير ينقل لأصدقائه ما دار بينه وبين الباحث قاسم محمد عبّاس، إذ قال له الأخير: «نحن المثقفين لا نحتاج إلى أفكار، نحن ملؤنا أفكار خلاقة، لكنّنا لا نفكّر من خلال ذواتنا الخلاقة. لماذا لا نلبس جزمات مضادة للمياه، ونضع فيها بنطلوناتنا الأنيقة، ونلبس لفافات ملوّنة، ونحمل الهدايا التي تُعين الناس، وننزل إلى المنكوبين في المناطق الفقيرة، ونخوض في طرقاتهم ومساكنهم الغارقة؟».



توحيد الأنتلجنسيا

إذا كانت هناك أطروحات تشكّك في وطنية تظاهرات الأنبار ودوافعها، فإنّ أصواتاً عقلانيةً دعت الى تكوين وفدٍ يزور الأنبار ونينوى وصلاح الدين، ويجمع حصيلة «عينية» من المعلومات، وهو ما تبنّاه الروائي أحمد سعداوي «لتكوين موقف أخلاقي موحّد يمثّل الأنتلجنسيا العراقيّة، فالحياد الآن يبدو وصفة للنوم المريح. أما الانحياز الواعي العقلاني، فيتطلّب جهداً ومجازفة وحساً عالياً بالمسؤولية».