تتعدد المشاهد الشارحة والزمنيات الجامعة ـ دلالياً ــ للعلاقة بين المُستعمِر والمستعمَر ، بما يجب أن يضمن السيطرة للأول على الثاني، لضمان بقاء الكيان المستعمِر. ولعل أبرز تلك المشاهد والزمنيات في ما يتعلق بالإحتلال الإسرائيلي: الفضاء القروي الفلسطيني. سيرورة القرية الفلسطينية في علاقتها بالإحتلال، تبرز تلك العلاقة العضوية.
القرية هي تجسيد «مكاني» لبنية وهوية عربية وإسلامية والأهم ما قبل حداثية، وهي العناصر التي يستخدمها الإسرائيلي لتعريف «أناه»، لا بما هي، بل بما ليست هي، وهو «التعريف بالسلب»، باعتبار أن الكيان الصهيوني هو تمظهر للمشروع الكولونيالي الأوروبي – الأميركي في المنطقة. هو يقدم نفسه بأنه مشعل الحضارة الإنسانية والحداثة في منطقة ترزح تحت ثقل الجهل والتخلف والديكتاتورية والطغيان التي تبرر لها ثقافات وهويات وأديان المنطقة الشرقية والعربية (بالتوازي مع المسوغات العقائدية والتاريخية المختلفة لقيام الكيان الصهيوني). ومن هنا، كان لزاماً على الإسرائيلي الإبقاء على الفضاء القروي الفلسطيني مكانياً تحت سيطرته في «الماقبل» لإضاءة «الحاضر بالنيون الكهربائي المميز» كما يصف ذلك فرانز فانون، بما يضمن له السيطرة على الزمنية الفلسطينية القروية – الماقبل حداثية- وإبقاءها في خدمة الزمنية المكانية الإسرائيلية «الحداثية» عن طريق الفصل بينهما، والإبقاء على قناة تضمن الحاجة العضوية للفلسطيني للإسرائيلي من خلال «العمالة الرخيصة» القروية.
لكن الأمر في ما يتعلق بـ «قرية» «باب الشمس» جد مختلف، وهذا ما يفسر حالة الهلع التي أصابت الكيان الصهيوني في مواجهتها (نتنياهو يأمر شخصياً بإزالة القرية في أقل من 36 ساعة على قيامها). «باب الشمس» مكان فلسطيني، أقيم بإرادة فلسطينية خالصة من لغة الإحتلال وأبجديات المجتمع الدولي (أوسلو ودولة أيلول، أمثلة)، في فترة ما بعد دولة الحداثة الإسرائيلية، أي ما بعد «النكبة». تلك اللحظة الزمنية التي أوقفت فيها إسرائيل نمو القرية الفلسطينية لصالح إستلابها لضمان بقاءها ككيان أقوى. كما أنّ «باب الشمس» أقيمت على أرض/ فضاء إستيطاني أريد له أن يكون لنهش الارض الفلسطينية، عن طريق خلق كيان مديني حداثي أوروبي يؤكد عليائية العرق الإسرائيلي (وهذا ما يعري الوجه الصهيوني لمدينة روابي)، وبذلك يخرج الجسد القروي الفلسطيني الماقبل حداثي عن علاقات القوى المراد إخضاعه لها، بل وأكثر من ذلك، هو يتحدى القوة المادية المتمثلة في المستوطنات/المدينة/الجيش، و القوة المعنوية وهي سلطة الإحتلال/ الهزيمة.
ويستخدم الفلسطيني في ذلك عنصراً تاريخياً فُرض بالقوة عليه، قوة الإحتلال والإنبطاح العربي، وبات جزءاً من هويته ورمزاً لنفي الفلسطيني عن مكانه، وهو «الخيمة» التي إرتبطت دوماً في المخيال الفلسطيني الجمعي باللجوء والنفي والمخيمات. ها هي الآن تقف في مواجهة سيكولوجية الهزيمة في الوعي الفلسطيني والإدراك العالمي والعربي لذلك الفلسطيني، وهو أيضاً ما يبرر ــ من ناحية الصورة الإعلامية ــ عدائية جنود الإحتلال تجاه الخيم أثناء فض القرية بدرجة العدائية نفسها تجاه أهالي تلك الخيم في قرية «باب الشمس». كما فضحت «باب الشمس» الكثير من أبجديات الهزيمة والجدب والعمالة في الخطاب الفلسطيني والعربي، بين تصريحات لبعض رموز «دولة أيلول» (دولة الاعتراف بالاحتلال)، وتصريحات الإعلام العربي الذي سمى «باب الشمس» مخيماً تارة وأخرى مستوطنةً. تلك إمتدادات سرطانية في الخطاب الذاتي لثقافة الهزيمة التي بدأت بتسمية «الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين» «نزاعاً» يتساوى فيه المحتل والإحتلال، تلك الثقافة التي أوجدتها الهزيمة باسم الواقعية والممكن والمتاح، كأن الأصل في الأمور فلسطين وإسرائيل معاً على أفضل الوجوه.
تتعدد الوجوه المركبة والعبقرية للمقاومة، تلك التي أثبتها التاريخ الإنساني، وأغفلها خطاب الهزيمة، «باب الشمس» هو انتصار للبنية الأنثوية الفلسطينية المتمثلة في القرية الأقرب للأرض/ الإيثار على البنية الذكورية في المدينة/ المستوطنة الأقرب إلى السماء/ الأنا، بما في الأخيرة من الاحساس بالقوة والذاتية والسطوة و الألوهة ـ باسم الحداثة ـ في العلاقات المدينية المبنية على المصلحة والمقايضة أكثر من تلك في القرية المبنية على التراحم والسكنى. تذكرنا «باب الشمس» بأكثر من وجه أنثوي نضالي تمثله نهيلة ـ بطلة رواية «باب الشمس» لإلياس خوري ـ في الواقع والتاريخ الفلسطيني، بداية من دلال المغربي وشادية أبوغزالة وليلى خالد (صاحبة المقولة الصادقة: «اللي مابده يرجع على صفد، جعله الله ما رجع») وشيرين العيساوي وغيرهن من نواصي البطولة الفلسطينية الإنسانية الأنثوية كالأسيرات والأمهات الفلسطينيات الجميلات.
وتظل «باب الشمس» شاهداً حياً على أكذوبة «المدينية» الصهيونية. الأخيرة لم توجد بسيرورة «الإجتماع» أو «العصبة» ـ بالمصطلح الخلدوني ـ الإنساني الطبيعي لأي مدينة. المدينة أي مدينة إسرائيلية هي في الأصل كيان إستيطاني إحلالي، قام على «إحلال» بشر وكيان مادي مهندس، مكان بشر أقدم وكيان مادي أقدم، مستخدماً كل وسائل النفي بداية من النفي المادي عن طريق التهجير والقتل أو الهدم وصولاً إلى النفي اللغوي من المكان بتغيير الأسماء العربية و/أو تشويهها أو عبرنتها، فها هي دولة كاملة لا تزال تعادي «قرية» برسم الخلق، وتُهزم أمامها.
كما تأتي مواجهة المستوطنة الصهيونية والقرية الفلسطينية «باب الشمس» في داخل النسق المعرفي والمكاني الإسرائيلي الذي يعتبر إسرائيل كياناً طبيعياً وبالتالي فمدنها طبيعية كأي تجمع بشري، فتعري تلك المواجهة زيف الإدعاء بطبيعية الكيان الصهيوني الذي يعادي الحق الإنساني في المكان، وخصوصاً الفلسطيني. «باب الشمس» شاهد على عبقرية الفكرة المقاومة ـ الفلسطينية ـ وهزيمة الإحتلال و«خطاب الهزيمة»، بورك أهلها وباب شمسهم.

* كاتب فلسطيني