تونس | يُجمع التونسيون على أنّ حرية الإعلام والتعبير هي الإنجاز شبه الوحيد للثورة التونسية التي ما زال مسارها متعثراً في الاستجابة للمطالب الشعبية التي انتفضت من أجلها المناطق المهمّشة في تونس. منذ ١٤ كانون الثاني (يناير) 2011، تحرّر الإعلام التونسي من القيود المسلّطة عليه التي بلغت أقصى درجاتها عندما وقع الانقلاب على القيادة الشرعية لـ«النقابة الوطنية للصحافيين» عام ٢٠٠٩. منذ اليوم الأول للثورة، تنفّس الإعلاميون الصعداء وأصبحوا أحراراً في التفكير والكتابة.
وإذا كانت السنة الأولى بعد الثورة قد مرّت بسلام من دون مشاكل تذكر، فإنّ ٢٠١٢ السنة الأولى لحكومة الترويكا التي تسيطر عليها حركة «النهضة» الإسلامية، كانت مليئة بالمتاعب مع الحكومة والحركة وأنصارها والجمعيات القريبة منها. بدأت جمعيات تابعة لـ«النهضة» في حشد أنصارها والاعتصام أمام مؤسسة التلفزة التونسية، رافعين شعار «التطهير». توّج هذا الاعتصام باعتداءات طاولت عدداً من الصحافيين، ما دفع النيابة العامة إلى إصدار قرار بفك الاعتصام بالقوة. مع ذلك، تواصلت الحملات التي تستهدف الإعلاميين على الفايسبوك، وخصوصاً الذين يبدون آراء ضد الحكومة أو «النهضة» أو رابطات حماية «الثورة» الذراع العنيفة لـ«النهضة» وحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية».
وخلافاً للحكومة الأولى التي قادها الباجي قائد السبسي والتي أصدرت مراسيم لتنظيم القطاع باقتراح من هياكل المهنة، جمّدت الحكومة الجديدة مرسومي ١١٥ و١١٦، ما اضطر «الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري» المؤقتة إلى الاستقالة، ولم تعيَّن هيئة جديدة حتى اليوم. وتشير آخر التسريبات إلى أنّ الحكومة ستعيّن قاضياًَ قريباً من «النهضة» لرئاستها، وهو ما سترفضه «النقابة الوطنية للصحافيين» و«نقابة الثقافة والإعلام»، وفق ما علمت «الأخبار». وقد كان مطلب تشكيل هيئة عليا للإعلام السمعي البصري قد تضمّن استقلالية الإعلام عن الحكومة من بين الأسباب التي دعت النقابتين المذكورتين إلى إعلان الإضراب العام للمرة الأولى في تاريخ تونس، وقد حقق نجاحاً.
الحراك الذي شهده قطاع الإعلام لم يكن على مستوى المضمون فحسب، بل كان على مستوى العناوين أيضاً. في الإعلام البصري، أصبح لتونس قنوات بالجملة تتنافس في ما بينها، وخصوصاً في برامجها السياسية، ما أثر سلباً في نسبة مشاهدة القنوات الإخبارية العربية مثل «الجزيرة» و«العربية» و«فرنسا 24» و«بي بي سي». قبل الثورة، كانت هناك أربع قنوات فقط، منها محطتان مملوكتان للدولة، وحتى قناتا «حنبعل» و«نسمة» كانتا ممنوعتين من الأخبار . والآن هناك «التونسية» و«الحوار التونسي» و«تونسنا» و«الجنوبية» و«العالمية» و«الرياضية» و«الزيتونة» القريبة من «النهضة» و«المتوسط»، وهذا ما لم يكن أحد يحلم به قبل الثورة.
وإذا كان الإعلام البصري قد شهد طفرة غير مسبوقة، فإن المجال السمعي شهد انتشاراً للإذاعات الخاصة بعدد لم يعد فيه المواطن قادراً على متابعة كل الإذاعات التي انتشرت في المدن، مثل سيدي بوزيد والقصرين وقابس والقيروان والمهدية وبنزرت والعاصمة. وينطبق الأمر نفسه على الصحف والمجلات الثقافية والسياسية التي تعددت عناوينها. وإذا كان الإعلاميون يشعرون بالفخر لما يقدمونه من مضامين وما يخوضونه من معارك، فإنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الحكومة و«النهضة»؛ فقد قال رئيس الحكومة أخيراً إن «الإعلام متحزب»، وأكّد أنّه يحتاج إلى «ثورة». أما زعيم الحركة راشد الغنوشي، فقد طالب بـ«تطهير» الإعلام الذي «ما زال يحنّ إلى العهد السابق» ويناصر «الثورة» المضادة. وأعلنت الرئيسة المديرة العامة لمؤسسة التلفزة التونسية إيمان بحرون، فتح باب الانتداب لصحافيين جدد، ما يعني التعويل على جيل جديد يمكن توجيهه ما دام الصحافيون المتوافرون ليسوا من أنصار الحكومة ولا حركة «النهضة» الحاكمة. وقد تجسّد هذا الصداع الذي يمثله الصحافيون والمدونون للحكومة و«النهضة» في القضايا التي رفعها وزير الخارجية رفيق عبد السلام على المدونة ألفة الرياحي؛ لأنّها كشفت قضية إهدار المال العام وفتح تحقيق ضد موقع «نواة» الإلكتروني؛ لأنّه كشف عن عصابة على صلة بحركة «النهضة». كذلك، قاضى وزير التعليم العالي القيادي في «النهضة» منصف بن سالم، صحافياً بسبب مقال في جريدة «الطريق الجديد». تبحث الحكومة عن إعلام مساند، وتبحث «النهضة» عن إعلام يجمّل «إنجازات» الحكومة ويصمت عن عثراتها مثلما كانت عليه الحال أيام بن علي، لكن ما تغيّر أنّ الحرية التي تمتع الصحافيون بمذاقها طوال عامين يصعب جداً أن يتخلوا عنها ويعودوا إلى بيت الطاعة!



تخلّف بلا حدود

في بداية العام الماضي، أُوقف مدير اليومية «التونسية» نصر الدين بن سعيدة بسبب نشره صورة نجم كرة القدم العالمي سامي خضيرة (لاعب ألماني من أصل تونسي) وزوجته على الصفحة الأولى للصحيفة. بعد نشر صورة خضيرة، سُحب عدد الصحيفة من الأكشاك سريعاً. ورأت النيابة العامة التي يرأسها وزير العدل نور الدين البحيري الصورة «خادشة للحياء»، وبموجب ذلك أُودع مدير الصحيفة السجن واعتقل بن سعيدة في 16 شباط (فبراير) مع رئيس تحرير «التونسية» حبيب القيزاني ومحمد هادي الحيدري، وهو صحافي في الجريدة نفسها، بناءً على بند في قانون العقوبات، لا قانون الصحافة. وقد أُفرج عن رئيس التحرير في اليوم التالي من اعتقاله، فيما مكث بن سعيدة رهن الاعتقال في انتظار النظر في قضيته يوم 8 آذار
(مارس).