لو أن الصورة الإعلانية الكبيرة التي رآها سكان «حي بيهم» القدامى آنية لا مستقبلية، ما كان هذا ليحدث فارقاً كبيراً، أقلّه بالنسبة إليهم. في شريطهما «رسم خريطة شارع بيهم» (35 د) الذي عرض للمرّة الأولى ضمن مهرجان «أشغال فيديو» هذه السنة وشاهدناه أول من أمس في «مترو المدينة»، ترصد نادين بكداش وجمعة حمدو تغير ملامح هذا الشارع البيروتي في زقاق البلاط. الشارع يقبع على خط تماس بين بيروت الجديدة، مرآة أحلام الشركات الكبرى، وبين ترسّبات ذاكرة المدينة. تظهر مشاهد الفيلم بيروت ورشة هائلة، بينما أبناؤها ساهون عن تبدّلاتها العمرانية والاجتماعية.
وإذا علمنا أن معظمهم مهدد بالتهجير بسبب قانون الإيجارات الجديد، فسيبدو سهوهم مبرراً أحياناً، ولو عن حيّهم. في الشريط التوثيقي البحثي، تمسك نادين بصورة إعلانية لمشروع عمراني، تظهر رسماً تقريبياً للحي في المستقبل، أي بعد اكتمال مشاريع المستثمرين الجدد. تجول بهذه الصورة على سكان الحي، ومعظمهم من مستأجريه القدامى منذ عشرين سنة على الأقل. تدخل منازلهم وتسأل عن مواقعها في الصورة ومكان وجود الحي. لقد بدا الأمر أشبه بمتاهة. لم يستطع عدد منهم تحديد المكان، لأن منازلهم اختفت ببساطة من الحي. اعتمد الثنائي على خرائط الشارع بشكل كبير خلال سنوات مختلفة.
هناك أيضاً مشاهد من بيوت الناس. خلقت هذه اللقطات الداخلية المتماهية مع قصصهم وذكرياتهم مساحة حميمية لن تدوم كثيراً في الشريط. ستذوب فوراً في الورشة التي تعكسها المشاهد الخارجية والعامة للمدينة. ورشة تقص السماء، وتهدد، قبل كل شيء، المستأجرين وذكرياتهم والنسيج الاجتماعي المتنوّع الذي يجمع قاطني الشارع القادمين من حلب والجنوب وبيروت والبقاع.
يضيء العمل على قانون الإيجارات الجديد، والسياسات العقارية السريعة وقوانين تغيّر الملكية التي لا تحمي إلا طموحات المستثمرين في أحسن الأحوال. هذه القضايا تستحضرها قصور الحي كـ«قصر زيادة»، و«قصر حنينة»، وتلك التي كانت مدرجة ضمن لائحة الأبنية التراثية قبل أن تختفي بطرق مجهولة. «هبطت مع الشتاء» يردد أحد قاطني الحي، المقتنع بخبر متناقل يهدد بيته بالطريقة نفسها. تستحضر هذه العبارة الساذجة تاريخاً أسود لإعادة إعمار بيروت. في التسعينيات، شهد وسط المدينة انهيارات مبهمة لأبنية الحرب، قيل إنها انهارت بمفردها، بينما أسقطت عمداً بالديناميت وسط غياب رقابة الدولة عن أعمال الشركات العقارية حينها. أنتجت إعادة الإعمار أبنية منسوخة وباردة تشبه الرسم المستقبلي لحي بيهم والترويجي لمشروع Deck 32K، ولمشروع آخر في المنطقةcielo 628 لمالكيه سعد الدين الوزان ووهيب غيث. عبر مشاهد أنيمايشين، يظهّر الفيلم كيف اشترى الرجلان العقارات في الحي، وتقاسماها بهدوء. المشاهد المستفزة، لا تعكس سوى الخطر الذي يهدد مئات العائلات في بيروت، كما علاقتها بالمدينة. كل هذه المواضيع لم تغب عن النقاش الذي تبع عرض «رسم خريطة شارع بيهم» في «مترو المدينة». فتح النقاش مجدداً على القوانين والسياسات العقارية التي أصرّ الحاضرون، ومن بينهم المعماري عبد الحليم جبر، والمنسق الإعلامي لـ «لجنة الدفاع عن حقوق المستأجرين في الحمرا» حسيب ديب فيلوح، على ضرورة الوقوف في وجهها. هذا ما أرادته نادين وجمعة من فيلمهما. قدّما رسماً مستقبلياً لحي بيهم كما تفرضه الخرائط الإعلانية، لا لقتل التفاؤل بل لتدارك الصورة قبل حدوثها.