غيّب الموت الكاتب الفلسطيني سلمان ناطور (1949 ــ 2016) صباح أمس الاثنين، إثر أزمة قلبية مفاجئة في مدينة حيفا. وكان الكاتب الراحل أحد أبرز الوجوه الثقافية في الداخل الفلسطيني، وذاكرة حيّة للنكبة الفلسطينية عبر مساهماته المتعدّدة في الرواية والقصة والسينما والمسرح والترجمة والصحافة الثقافية، من موقع المثقف العضوي الذي لم يهادن سلطة الاحتلال يوماً. هو أدار طوال سنوات أكثر من مؤسسة ثقافية، موجّهاً بوصلته نحو الخريطة الأولى لفلسطين، وإعادة كتابة تاريخ النكبة على نحوٍ مغاير، في مواجهة معلنة مع المحاولات الإسرائيلية لمحو الذاكرة. عمل على توثيق التاريخ الشفهي لبلاده، ووقائع الإبادة لمئات القرى الفلسطينية، مفكّكاً الأسطورة الاستعمارية الإسرائيلية بالوثائق المضادة لهوية عصيّة على النسيان، بإماطة اللثام عن تفاصيل الجريمة التي ارتكبتها الحركة الصهيونية قبل حوالى سبعين عاماً بحق الشعب الفلسطيني ولا تزال ترتكب أبشع منها إلى أيامنا هذه.
وثّق التاريخ الشفهي لبلاده، مفكّكاً الأسطورة الاستعمارية الإسرائيلية بالوثائق المضادة

كتابه «ذاكرة» (2006) صورة حيّة لتوظيف الألم التاريخي الذي عانته الأجيال الفلسطينية المتعاقبة في ظل عنصرية دامغة، وفضح لما ارتكبته إسرائيل من مذابح بحق السكان الأصليين، ومحاولاتها طمس جرائمها بقوة الخرافة وتزييف الحقائق. بالطبع، لم تصمت السلطات الإسرائيلية على مواقفه الشجاعة، إذ اعتقلته أكثر من مرّة، كما تعرّض للإقامة الجبرية، والملاحقة والتحريض، ومنع مسرحيته "المستنقع" ليلة افتتاحها في مدينة الناصرة. لكنه لم يخضع للمساومات، بل استمر في مشروعه لتأصيل ثقافة وطنية تنهل من ذاكرة متوقّدة. عدا مقالاته في ملحق صحيفة "الاتحاد" في حيفا، كتب سلمان ناطور منذ مطلع سبعينيات القرن المنصرم عشرات الأعمال الأدبية التي تغلب عليها النبرة الساخرة، واستثمار المخزون الشفوي الفلسطيني في تأثيث نصوصه، مثل "ما وراء الكلمات"، و"أنت القاتل يا شيخ"، و"خمارة البلد"، و"ساعة واحدة وألف معسكر"، و"الشجرة التي تمتد جذورها إلى صدري"، و"ستون عاماً في رحلة الصحراء". كما انخرط في الترجمة عن العبرية لمعرفة تفكير الآخر عن كثب، وحاور كتّاباً إسرائيليين من موقع الضد.
وكان قد كتب سيرته في ثلاثية "ذاكرة"، و"سفر على سفر"، و"انتظار"، بمزج السيرة الشخصية بسيرة الجموع، في ما يخص الهوية، واللغة، والمواطنة، والشتات، وحق العودة، والانتظار على الحواجز، وفي قاعات المحاكم، مستنفراً ذاكرة لا تخضع للصمت أو النسيان. يقول منبّهاً "ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة... ستأكلنا الضباع". ويختزل سيرته المؤلمة بقوله "ولدت بعد حرب 1948، دخلت المدرسة في حرب حزيران، تزوجت في حرب أكتوبر، ولد ابني الأول في حرب لبنان، ومات أبي في حرب الخليج، حفيدتي سلمى ولدت في الحرب التي ما زالت مشتعلة".
قد يبدو سلمان ناطور كاتباً إشكالياً، بالنسبة إلى بعضهم، نظراً إلى انخراطه في سجالات علنية مع كتّاب إسرائيليين، وترجمته أعمالهم إلى العبرية، لكن الكاتب الفلسطيني الراحل لم يعبأ بمثل هذه الاتهامات التي كانت تغمز من قناته، لاقتناعه بأن مثل هذه السجالات لا تدينه كفلسطيني وجد نفسه محاصراً، ومقموعاً، ومنتهكاً، في أرضه، إنما تفضح تاريخ الخزي لدى الآخر أولاً، وتوضح الصورة الحقيقية للتراجيديا الفلسطينية من جهةٍ أخرى. قبل رحيله بأسابيع، استضافه معهد دراسات اللغة والحضارات الشرقية في باريس بمشاركة يهودا شنهاف شهرباني في ندوة أكاديمية بخصوص ترجمة الأخير لرواية سلمان ناطور «حدثتني الذاكرة ومضت» إلى اللغة العبرية. سيواجه المترجم مشكلة باختفاء هذه الأماكن من الخريطة بعدما استبدلتها السلطات الإسرائيلية بأسماء عبرية ضمن خطتها بمسح ذاكرة المكان، فيما أوضح الكاتب الفلسطيني أن مشروعه الأدبي لم يحد يوماً عن "استحضار ذاكرة جيل النكبة الذي كان يرحل يوماً بعد يوم آخذاً حكاياته معه، من دون أن تدوّن وتنقل للأبناء والأحفاد"، وأنه وضع نصب عينيه فكرة أساسية وهي تحرير هذا الجيل من "عقدة الذنب، وتحميل الضحية مسؤولية موتها لأنّ جيل الأبناء توجه إليه بسؤال قاس: لماذا هربتم؟ والحقيقة هي أن هذا الجيل كان أمامه خياران: الموت في مجزرة على أرض الوطن أو الحياة في المنفى، فاختار الحياة. ولكي تنفذ الحركة الصهيونية مشروع التطهير العرقي في فلسطين، فقد ارتكبت مجزرة في كل قرية ومدينة". مأساة الكاتب الفلسطيني في ظل الاحتلال كما عاناها سلمان ناطور وأقرانه، تتمثّل وفقاً لما يقوله في ذلك التناقض" بين مفهوم الوطن ومفهوم الدولة وبإقامة دولة يهودية على الوطن الفلسطيني، فهذا يجعل المكان الذي نعيش فيه وطناً لنا والدولة ليست لنا، وأما اليهودي فله دولة ولكن الوطن ليس له وهذا هو أساس الصراع". في هذا السياق، علينا أن نستحضر نصوصه المسرحية مثل "هزّة الغربال"، و"موّال"، و"ذاكرة"، و"هبوط اضطراري" بوصفها صورة حيّة للصراع وتفكيك آلياته، عبر منح الضحية موقع الراوي، وتصحيح ألوان الصورة التي تمّ تغييبها قسراً، طوال 70 عاماً من جرائم الاحتلال، بالتوازي مع مشاريع ثقافية أخرى في ترميم المكان الأصلي. إذ عمل كاتبنا الراحل على استعادة بيت المفكر الفلسطيني إميل توما وتحويله إلى مركز للتوثيق والدراسات، وإعادة الحياة إلى المقاهي الشعبية والأماكن المهملة في حيفا، وتحويلها إلى فضاءات ثقافية تحت عنوان "مواجهة ثقافة الموت بثقافة الحياة". ربما كان توصيف محمود شريح لسرديات الراحل سلمان ناطور تختزل صورته الكاملة بقوله إنه يجمع "لوعة غسان كنفاني وفكاهة إميل حبيبي" في فضاءٍ واحد.