جاوز الثمانين حولاً بعقدين ونيف، ولم يسأم أو يتعب كسلفه ابن أبي سلمى. أقعدته المئة في البيت، لكنه ظلّ حاضراً ينام ملء جفونه عن شواردها، كأن قرناً كاملاً من الزمن لم يزده إلا شغفاً بالمزيد، وكأن رأسه الذي اشتعل شيباً حتى صار يبزّ صنين في بياضه لم يفقده دهشة طفولة يحملها الشعراء مدى العمر والأيام. فهل “ظلَّ الطفل الذي فيه يحرّض الشيخ الذي صاره” وفق تعبير أدونيس؟
لكل مقام مقال، وفي مقام الدمع يتقدم الورد ويؤجَّل السجال. لكن هل يستقيم كلام على سعيد عقل بلا نقاش وجدال، وهو الذي طبع قرناً لبنانياً كاملاً بالشعر وبالأفكار والآراء المثيرة للسجال، ولم يكن يرضيه أن تمر كلمته عابرةَ سبيل، بل يغويه التفاتُ الجميع اليها مراودةً أو موافقةً أو حتى مخاصمةً، وإن ظلَّ الثناء يغرّه أكثر من سواه؟
إنه أوان الحزن، لا فقط على سعيد عقل، بل على “لبنانه” أولاً. لبنان الذي لم يبقَ منه إلا القليل، قصيدةً وأغنيةً ودمعةً وحلماً مستحيلاً اقترفه الشعراء والغاوون، وكان هو الأعلى صوتاً والأشد شغفاً بابتكار أدوار كبرى لجغرافيا صغيرة المساحة كثيرة الشغب والمشاكسة، مثلما هي كثيرة الشعر والغناء و”اختراع” أمجاد تليق بها، فبلغ هيامه بلبنان حدَّ الإسراف في إسباغ الصفات، والسخاء في استدراج التاريخ إلى غير مواضعه المعروفة، وهل كانت “الأعجوبة” اللبنانية لتستقيم بلا سعيد عقل الـ “كأنه” (وكم كان شغوفاً بأل التعريف يضعها حيث لم تعتد ولم نعتد) قادمٌ إلينا على متن مركبة إغريقية عابرة للزمان والمكان ليضرب بعصاه فينشق الأبيض المتوسط وتخرج حوريات الماء لتغنّي وتتغنى بصور وصيدون وجبيل وصنّاع الحرف والأرجوان.
إنه أوان الحزن، لا فقط على كبير الشعراء المعاصرين، بل على وطننا الأكبر برمته، كيف لا والعواصم التي أنشدها أجمل ما يكون الإنشاد غارقة في دمائها والنحيب، ومَن ذا الذي في إمكانه محو ما سطّره قلمه السحري في مديح مدننا المنذورة للحروب والمحن، والتي لم ينهشها الرصاص بعد تصحو وتنام واجفةً قلقة على الغد والمصير، وإن كان شاعرنا المأخوذ بعظمة الزمان وصنائعه البديعة لا يتوقف عند حرب هنا وحرب هناك، هي برأيه مجرد عابرات لا تغير مجرى الأيام، كيف؟ مرةً قلت له: لم يبقَ من لبنانك الكثير، بسبب الحروب الطاحنة؟
كتب حرفياً عن
مسقط رأسي:
«عيناثا التي شهدت في الآونة الأخيرة أجمل بطولات لبنان»

أجابني بثقة مألوفة فيه: وهل تصدّق حكي الجرايد؟ نعم، في عُرف سعيد عقل حربُ عقد أو عقدين من الزمن لا تقاس بخمسة آلاف من السنين يتكئ عليها في استحضاره مجد لبنان وعنفوانه الذي لا يشيخ حتى لو شاخ أبناؤه وهرموا في انتظار جمهورية مؤجلة حتى إشعار آخر!
لندع الجمهورية جانباً، حيث لكلّ سعيده السعيد به، ولنفتح بوابات مملكة الشعر، ولنا من سعيدنا تلك اللقيات النفيسة النادرة المسبوكة ذهباً على هيئة قصائد عصية على الذبول والتلاشي مهما أفسد الدهر من أحوال، ومهما تبدل الشاعر وتغير أو تبرأ مما اقترف من سحر وجمال، وهل تُنسى قصائده في مكة والقدس والشام وبغداد؟ هل يُنسى ما نظمه في علي بن أبي طالب وشولوخوف وأحمد شوقي وطه حسين وتوفيق الحكيم والأخطل الصغير وشفيق المعلوف وعمر فاخوري وجواهر لال نهرو وسواهم؟
ولئن أبدعَ سعيد عقل في قصائده المهداة إلى مبدعين وقادة وأصدقاء فصدّعت أفئدة السامعين، وهي تتدفق من حنجرته الهدّارة بلكنة خاصة لا يضاهيه فيها أحد، فإن شعريته الصافية تتجلى في دواوينه ومسرحياته الشعرية مثل “بنت يفتاح” و”المجدلية” و”قدموس” و”رندلى” و”كما الأعمدة” وسواها، مثلما تتجلى في قصائده المحكية التي لم تكن أقل شعراً وعطراً من فصحاه، فهو في مختلف حالاته شاعر تأتي اللغة إليه صاغرةً، ويكتسب البيان والبديع على يديه لبوساً جديداً حتى يستحق الشعر تلك الصفة التي أسبغتها العرب عليه حين وصفته والنثر بالصناعتين. ولئن شاعت كثيراً قصائده المغناة بصوت فيروز، فإن ما لم يُعرف أو يُقرأ كما يجب لا يقل شأناً، ومنها غزلياته التي مجّدت امرأة من أثير وترفعت عن نزعات الجسد ونزواته حتى بدا وكأنه يكتب لامرأة لا مرادف لها سوى مريم العذراء... أو الأمّ مُهملاً (بكسر الميم) أن الأمّ تكون أولاً حبيبة وزوجة وأنثى ممتلئة نعمةً، لكنها أياً ممتلئة رغبة.
نعم، سعيد عقل منح الشعر العربي مئةً من سنوات تجوهرت فيها المعاني ورفلت اللغة بحللها قشيبة، وإن ظلت حللاً ارستقراطية تأنف شظفَ الآني الزائل أوالتعفّر بتراب التجارب الفردية وتفاصليها التي كان الشاعر مشغولاً عنها بمبارزة أسلاف سابقين أو بقضايا وجودية ورمزية كبرى، وبنبش رفات التاريخ لاستدعاء أجداد يؤازرونه في رؤيته للحاضر كما تأنسُ له نفسه ويطيب هواه، ولئن كانت موضوعات سعيد عقل الشعرية ظلّت (نسبياً) وقفاً عليه فإن لغته مثّلت خميرةً لشعراء نضج رغيفُ قصائدهم الساخنة على نار شعره.
قال مرةً إنه أثّر في أسلافه. لم تكن العبارة مجرد شطحة من شطحاته المثيرة، فالشاعر يؤثّرُ عادة بالخلف لا بالسلف، لكنه فعلاً أثّر ببعض مَن سبقوه، وكان يقصد أولئك الشعراء الذين يكبرونه سناً لكنه عاصرهم وعاصروه، وألتقى بهم على مفترق في الكتابة الشعرية، فكان أن امتد وهجه ليطاول السابقين واللاحقين، فكلُّ باحث في التجربة الشعرية العربية المعاصرة، ولا سيما اللبنانية منها، سيجد بعضاً من لغة عقل وصياغاته اللغوية في كثير من الآخرين، وليس غريباً ولا مستغرباً أن نجد بعضاً من عبقه الشعري وسبكه اللغوي يفوح (مثلاً) من بدايات نزار قباني وأدونيس وسواهما.
سعيد عقل مفترقٌ صعب في الكتابة الشعرية العربية، ولو شئنا أن نرسم خطاً مستقيماً من ذرى المتنبي قبل ألف عام ويزيد لارتطم هذا الخط لحظة وصوله زمننا الراهن بقمة سعيد عقل وقيمته الشعرية. غداً، حين ترحل أجيال وتأتي سواها، ولغته العربية المنحوتة بإزميل جوهرجي ناعم ومتين، ولئن تنكّر الفاعلُ ذات انفعال لما صنعت يداه فإن المفعول سيبقى شاهداً حياً على تلك الحُلي والمصاغ التي لن تفقد قيمتها بمرور الوقت وتقادم الأيام.
أجمل المحبة وأنقاها كامنٌ في الاختلاف. هينٌ ويسيرٌ حُبُّ الأشباه والنظراء، صعبٌ حدَّ الاستحالة حُبّ مَن نختلفُ معهم في الموقف من أسس ومسلّمات، وحُبُّ سعيد عقل “هوى صعبُ”. الصعوبة أكثر إمتاعاً ومؤانسة، السهولة لا تغري ولا تنادينا، الصعوبة توقعنا في حبائلها الفاتنة، تحثنا على المجازفة والبحث والسؤال، ليس أجمل من السؤال، علاماتُ الاستفهام مشانقُ اليقين، وكلُّ يقين باعثٌ على الكسل والخمول، “حين تكون دائم البحث والسؤال هذا يعني أنك على قيد الحياة” يقول شمس التبريزي. وحُبُّ سعيد عقل مشوب بأسئلة كبرى وبعلامات استفهام وتعجب معاً، ولعل أكثر ما نُحبُّ فيه، عدا شعره، حبّه لوطنه لبنان، مهما شابَ هذا الحُبَّ من مغالاة الحبيب وسعيه لإلباس حبيبه ما يرغب ويهوى، ولعل لبنان في أزمنة ضعفه ووهنه كان يحتاج تلك الشحنات الشعرية يستقوي بها قليلاً على النوائب والمحن.
في مقدمة قصيرة خطّها بكَرَم وقلم محبته لأحد كتبي، كتب حرفياً عن مسقط رأسي: «عيناثا التي شهدت في الآونة الأخيرة أجمل بطولات لبنان»، مشيراً إلى المواجهات البطولية الضارية التي خاضها رجال المقاومة هناك ضد العدوان الإسرائيلي في تموز عام 2006. فهل تراجع سعيد عقل عن آرائه ومواقفه التي كانت ذات اجتياح إسرائيلي؟ ليته فعل.
يطوي سعيد عقل سنواته المئة، يحملها تحت إبطه كمن يتأبط شعراً، يغادرنا إلى حيث كلٌّ كتابه بيمينه، لكنّ ثمة كتاباً سيبقى أبد الدهر مفتوحاً لأجيال تليها أجيال، صفحاته ملأى بقصائد فاتنة أعلاها التوقيع التالي: سعيد عقل.
* شاعر وإعلامي لبناني