لا تزال اللعبة الأثيرة لدى الكتّاب العرب ممن يكتبون بلغات أخرى هي الهوية وظلالها وتداخلاتها. ليس ثمة عمل، فني أو فكري، كُتب بلغة أخرى، ويخلو من هذه الثيمة/ الورطة. كان مالك حدّاد وادوارد سعيد أفضل من عبّر عن هذا المأزق. اللغة (الأجنبية) «منفى» آخر لحدّاد، وزملائه المغاربة الفرانكوفون، فيما ادوارد، والمشرقيّون عموماً، «خارج المكان». يحتاج الأمر إلى دراسة تفصيلية تركّز لا على أثر اللغة الأجنبية في حياة الكتّاب المغتربين فحسب، بل على نوع اللغة بذاته أيضاً.
الإنكليزية ليست كالفرنسية، والفرنسية بدورها مغايرة للألمانية. ثمة نقاط تشابه بلا شك، لكن مواطن الاختلاف متباينة في النبرة والإيقاع، ولو تماثلت في الجو العام. كذلك، وكما أنّ أدب مالك حدّاد مختلف عن أدب أمين معلوف، ليس أدب جبران خليل جبران أو ميخائيل نعيمة أوائل القرن الماضي شبيهاً بأدب أهداف سويف أو راوي حاج رغم اللغة «المشتركة».
العصر وسرعة تدفّق الزمن لهما أثر لا يمكن إنكاره على الفن عموماً، وعلى الرواية على نحو خاص كونها ابنة للمدينة بكل فضاءاتها المتبدّلة. ولذا، كان طبيعياً أن تكون روايات راوي حاج (1964) بناتاً لزمن تعدد الثقافات وما بعد-الحداثة. وإذا أضفنا لعنة اللغتين المتصارعتين داخل حاج، ومنفاه المكاني والزماني، سنكون أمام «كرنفال» فعلي بكل تشظيه وتنوّعه وظلاله وأصدائه. كان حاج موفقاً في روايته الأخيرة «كرنفال» (2012) التي صدرت ترجمتها العربية عن «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» (ترجمة ريتا بستاني) ابتداءً بعتبة العنوان، وصولاً إلى النهاية المفتوحة على اتّساع المنفى.
ليس الكرنفال هنا دلالةً على الكرنفال الممتد على مساحة زمنية هي شهر من كل عام كما تشير الأحداث الظاهرية للرواية. بل إنّ الحياة الأخرى ـ داخل وخارج الكرنفال الموقت هذا ـ هي ما يقصده حاج، ككرنفال أبديّ مثل وشم على قلب كلّ منفيّ.
تخلّى راوي حاج في هذه الرواية عن «نوافل» حيوات أبطاله في روايتيه السابقتين، وبدأ كتابة ما يمكن أن تكون «حياة أصيلة وثابتة». «كرنفال» رواية المفارقات، إذ إنّ جميع أبطالها («المُذلّين والمُهانين» كما كان أبطال دوستويفسكي) غارقون في التردد والتأرجح بين التناقضات، لكنهم يمتلكون ـ رغم ذلك ــ غاية واضحة في الحياة: أن يعيشوا الحياة بكل تفاصيلها، أن يعيشوا فحسب. وربما، تلك هي الغاية المستحيلة في زمن القرية الصغيرة الضاجّة بالتفاوت وانعدام المساواة. ضمن جميع التفاصيل المتباينة في حياة كل أبطال الرواية (كلٍّ منّا بالأحرى) ثمة أمر مشترك وحيد: أن تعود الحياة إلى أصلها البسيط، أي أن تكون جديرة بأن تُعاش. ليست المهنة، أو اللون، أو العرق، أو اللغة هي ما يهم هنا، وليست الأسماء بكل تأكيد. كل هذا ليس سوى فخ تقودنا إليه نزعاتنا الجمعية المتوارثة. المهم أن تعيش، وتدرك كيف تعيش، ولماذا. الانتحار، والقتل، والنهب، والنزاعات الصغيرة اليومية، ليست أكثر من ستار يُخفي خلفه الحياة بكل بساطتها.
الجنس هو العنصر الأكثر حضوراً
في الرواية بكل تنويعاته


الحياة في «كرنفال» لا تعبأ بالاختلافات: إنها تبدأ وتنتهي بالجنس. والجنس هو العنصر الأكثر حضوراً في الرواية بكل تنويعاته. لا عدل إلا في الجنس الذي يكون للجميع بحسب هوى كلٍّ منهم. للجميع نصيب؛ المثلي والغيريّ، العلني والسري. المهم هنا هو الرضى كمفتاح لفهم ما استغلق من الحياة بفعل «تطوّرها». إلى جانب الجنس، لا يبدو بأنّ أبطال الرواية يجدون الخلاص إلا على مسرحين فحسب. إما المسرح «الواقعيّ» في تاكسي فلاي، راوي الحكاية، أو المسرح «الخيالي» في كتب فلاي وأوتو. وحده فلاي من يعايش المأساة اليومية لأنه ضائع بين هذين العالمين/المسرحين. لا يجد راحته إلا في الفسحة المسروقة بينهما. زبائنه وحدهم لا يحقّقون خلاصه، كما أنّ جارته زينب وأصدقاءه المقرّبين وحدهم لا يحقّقون خلاصه أيضاً، وكذلك شخصياته المتعددة التي يتقمّصها في أبطال كتبه لا يحقّقون هذه الغاية. فلاي، كأي جدٍّ له من أبطال التراجيديات القديمة، يحتاج إلى مأساة لينجو؛ ومأساته هي تلك الازدواجية في الاسم والمهنة والحياة.
كما فلاي (اسمه مزدوج المعنى بين الذبابة والطيران)، سنجد بأنّ معظم أبطال الرواية المباشرين وغير المباشرين، أي في سرد الرواية أو في خيال أبطالها، ذوو أسماء مزدوجة. أوتو زي، الكاتبة الساديّة، وغونتر المازوخي، بل حتى الشاعر أميري بركة، وغيرهم. ثمة إشارة خفيّة هنا إلى أنّ الأسماء فخ، وزيادة الأسماء تعني بالضرورة الوقوع أكثر في الفخ.
فلاي في رواية «كرنفال» ابن لهذا المنفى الذي يشرّحه راوي حاج بقسوة. لم يكن اختيار مهنته الأولى كمهرّج عبثياً. لدلالات قناع المهرّج المخيفة والحزينة هنا مغزاها القوي. وكذلك، كانت مهنته الأخرى، كسائق تاكسي، حيث تمضي الحياة الموقتة للزبائن قبل أن يغادروا مسرح السيارة إلى حيواتهم الأخرى. أما الاختيار الصائب لمقطوعة «بين الشيطان والبحر الأزرق العميق» بعزف ثيلونيوس مونك، فيؤكّد ما تقوله الرواية. ليس كرنفال الحياة هذا إلا ورطة أو مأزق (بحسب المعنى المباشر لعنوان المقطوعة)، وليست هذه الرحلة الطويلة بين الأسماء والهويات أكثر من فخ يصطاد الجميع.




بيروت الحرب الأهلية

لم يكتب راوي حاج بالعربية، بل لم تكن الكتابة طموحه الأول حتى بعد هجرته من لبنان إلى الولايات المتحدة في الثمانينيات، قبل أن يتابع ارتحاله إلى كندا. بعد استقراره في مونريال، ودراسته للتصوير الفوتوغرافي، عُرف كمصوّر، عُرضت بعض أعماله في «المتحف الكنديّ للحضارة» في أوتاوا. وكذلك، اضطر للعمل كسائق تاكسي لفترة خلال إقامته في مونريال، وربما كان لهذه المرحلة أصداء في «كرنفال» (2012). منذ روايته الأولى «لعبة دي نيرو» (2006)، لمع اسمح حاج كأحد أهم الروائيين الكنديين الجدد. تُرجمت روايته تلك التي تدور أحداثها في بيروت زمن الحرب الأهلية إلى أكثر من ثلاثين لغة، ورُشّحت لجوائز كندية وعالمية مهمة عدة. نالت عدداً من الجوائز مثل الجائزة الكندية الأبرز «جائزة الحاكم العام» (2006)، و«جائزة هيو ماكلينان للآداب» (2006) التي يمنحها اتحاد كتّاب الكيبك. كانت الأخيرة أيضاً من نصيب روايتيه اللاحقتين «صرصار» (2008)، التي تروي قصة مهاجر شرق أوسطي إلى مونريال، و«كرنفال» (2012). راوي حاج معروف عربياً، لحسن الحظ، إذ قامت «شركة المطبوعات» في بيروت بترجمة رواياته الثلاث.