لم تأخذ الكاتبة المصرية نهلة كرم (1989) استراحة طويلة بين مجموعتها القصصية الأولى «أن تكون مُعلّقاً في الهواء» (2013) وعملها الروائي التالي «على فراش فرويد» (دار الثقافة الجديدة). كأنها لم ترغب في أن تبقى «مُعلّقة» في «المريلة الكُحلية» و«شنطة المدرسة». لم ترغب أيضاً في البقاء «معلّقة» بقصصها المُدونة على كراستِها المُزيّنة بـ«حواديت البنات» التي تودّ سريعاً أن تلامس «حُمرة الشفاه»، والتعامل مع تفاصيلها سرداً وبصوت مرتفع؛ علانيّة بلا مواربة أو تردد، أو حتى دونما حاجة للبقاء وراء غيمة تُخفي ما تقوله الفتاة بشهقة مكتومة خلف وسادة في غرفة نوم، لا يدخلها أحد وهي جالسة تُفكّر بخجل.
«كم تمنّت لو كانت ترتدي مثل ملابس الفتيات، اللواتي كن يتتابعن على مكتبه بملابسهن القصيرة الضيقة كاشفة الصدر». هو شغل سردي لا يعتمد على قاعدة ثيمة واحدة تربط العمل بكلّيته على النحو الشائع حديثاً، لكن هناك فكرة الدوران للعثور على مخرج من مراهقة أصبحت فائضة، وصار لازماً تركها في زمنها الذاهب إلى الأرشيف.
ستسأل بطلة القصص: «لماذا يموت الناس بالانتحار مّرة واحدة إذا كان بإمكانهم تجربة الموت أولاً بالنوم مع من لا يحبّون فوق فراش واحد؟». إشكالية سيبدو أمر وقوعها ـ لتفكيك حتمي ـ شيئاً لازماً في روايتها «على فراش فرويد». هنا يستقر كيان أنثى تمتلك قدرة الاعتراف والحكي بصوت مرتفع. هي ما زالت تؤنّب نفسها على تلك المرحلة التي كانت تعيش حياتها فيها بطريقة مُرغمة، وواقعة تحت ضغط بيئة قامعة وغير متسامحة.
استخدام لغة غارقة في شهوتها
سيذهب بنا هذا المناخ للانتباه إلى الإهداء المُفتتِح للعمل «إلى نورا... التي سمحت لي بالبوح وإلى اللواتي يخفين ما يكتبنه أسفل فراشهن». كأنه إعلان استباقي أو جدار حماية وضعته صاحبة العمل كي تقول: لستُ أنا من حكى، ولستُ أنا من «أوصلني حديثي معه إلى فراشه».
شائع هو هذا الالتباس الذي ما زال قائماً في عقل كثير من المتلقين المدفوعين برغبة وضع مقاربات بين العمل وما جاء فيه من سرد وبين صاحبه. لكنّ نهلة كرم تقول العكس، مؤكدةً أنّ هذه الرواية تعني الكثير بالنسبة إليها، «فهي بداية كسري لحاجز الخوف، وبداية تصالحي مع ذاتي في ما أكتبه، فإما أن أكون شجاعة وأكتب بصدق، أو أن أظل جبانة وأكتب بيد مرتعشة طوال الوقت خوفاً من ردود الأفعال». وربما قصدت هنا تبريراً أو توضيحاً لتلك اللغة المُغايرة التي حملتها روايتها وتأتي على النقيض تماماً من لغة مجموعتها القصصية الأولى. لعلّ هذا الفارق الظاهر في استخدام لغة غارقة في شهوتها، على اعتبار أنها تتناسب مع سرد تفاصيل التناقضات المحيطة بشخصياتها، وتقديمها بلسان الحالة التي تعيشها على أرض الواقع، بدءاً بـ«نورا» بطلة العمل، و«مريم» التي ستكون فاتحة السرد، ومروراً بـ«محسن وإلهامي» وليس انتهاءً بـ«زياد» الذي سيبدو في حالة مثالية مفارقة للجميع. كما أنها لغة ملائمة لحياة الكبت التي تعيشها تلك الشخصيات. ويأتي هذا في سياق رغبات تبدو مفروضة وواقعة تحت سلطة المنع المُسيطر على مقاليد اليوميات: نقرأ «وأيّ الفتاتين تشعرين بميل إليها؟»، و«هل شعرتِ برغبة في أن تفعلي شيئاً مع مريم؟». كأن هذا إعلان صريح بأن غالبية حالات النزوع إلى الممارسات غير المقبولة اجتماعياً، إنما تأتي مفروضة من قبل قوانين اجتماعية لا تفتح الباب علانية لممارسات «طبيعية»، أو مسايرة لما تراه عين المجتمع بأنه يسير في الاتجاه الصائب.
هكذا، سيكون طبيعياً وقوع تلك الشخصيات تحت مجهر التفسير النفسي الفرويدي الذي ستكون وظيفته علاجية أو تبريرية لمجمل الأفعال التي تم سردها. وهو الأمر الذي ــ لفرط تكراره ــ أعطى بعض مفاصل «على فراش فرويد» نَفساً بحثياً وتقريرياً أثقل العمل وأنهكه وإن لم يُفقده حالة الصدق التي قدرت أن تلاقي لنفسها مخرجاً وتمثيلاً. لعلّ هذا ما دفع بالكاتب صنع الله إبراهيم وصاحب دار النشر التي تبّنت العمل إلى وصف العمل بأنّه «رواية جريئة لموهبة ناضجة لا تهاب مقارعة كافة المحظورات في سبيل الصدق».