تتأمل لوحات فؤاد نعيم ولا تستطيع أن تتجاهل تجربته الطويلة في الإعلام المرئي والمسموع، والصحافة المكتوبة، والمسرح، وحتى فكرة أنه كتب الشعر أيضاً. الرسم الذي (قد) يبدو مثل ممارسة جانبية في سيرته المهنية المعلنة حاضر هنا وحده في معرض جديد يحتضنه «مسرح المدينة» بعنوان «شجر». نتذكر أخباراً وانطباعات عن معرضين أو ثلاثة معارض له في باريس، وعن معرضيه السابقين في بيروت عامي 1998 و2002.التقطع والتباعد في مواعيد المعارض يعززان فكرة أن الرسم هواية وشغف عائدان لمزاج شخصي، لا إلى رغبة في أن يكون صاحب هذا المزاج رساماً محترفاً، يمكن وضعه في سياق المحترف اللبناني المعاصر.

لا يقلل هذا التوصيف (العاجل ربما) من أهمية ما رسمه نعيم سابقاً، وما نراه أيضاً في معرضه الحالي، بل إن ربط الرسم بالمزاج والهواية يُكسب التجربة نوعاً من الهامشية الإيجابية، التي تجعل الرسم نفسه نوعاً من المتعة والتحرر واللعب. وحين تقول ذلك للرسام نفسه، يقول إنه ليس على هامش المحترف اللبناني فقط، بل على هامش نفسه، وإنه في كل الأعمال التي أدّاها كان تقنياً في المادة وعلى مسافة منها.
يضم المعرض 27 لوحة بألوان الاكريليك. «الشجر» الموجود في العنوان لا يحصر المعرض بالأشجار أو الطبيعة. الأشجار وحيدة غالباً أو مع خلفية مفتوحة أو خلفية مسكونة بالأبنية، ولكن الأهم أنها منجزة بزاوية تُظهر شكل الجذوع والأغصان الكبيرة أكثر من كونها مهتمة بجماليات محددة لها. الجذوع البنيّة مرسومة أيضاً بطريقة غير مطابقة فوتوغرافياً أو شكلانياً للواقع. هناك قوة تعبيرية وانطباعية تواجه المتلقي قبل أن يحيط بشكل الشجرة. الانطباعية والتعبيرية،
يبتعد عن الصرعات الأخيرة في سوق
الفن المعاصر


والتيارات والتجارب الأكثر راهنية فيهما تتدخل في لوحات المعرض كلها تقريباً. هناك نساء بدينات إلى حدٍّ ما جالسات في هيئة مسيطرة أو لاهية. مذاقات وانطباعات من بيكاسو تتسلل إلى واحدة منها، بينما تحضر أصداء مماثلة من غوغان وماتيس في لوحات أخرى. لا يُخفي فؤاد نعيم مصادره أو مؤثراته، فهو متذوق جيد للرسم قبل أن يكون رساماً. اللمسة الشخصية تجعل هذه المؤثرات خفيفة وجذابة ومنقّحة إلى حد ما. الشجر آتٍ من طفولته في الضيعة، ومن إقامته الحالية الموزعة بين المدينة والجبل، كما يقول. يرسم أشجار زيتون، ولكنه يملأها بطيور صفراء وكبيرة. ويرسم شجرة أخرى ملويّة إلى الخلف بفعل هواء قوي وغير مرئي. الأبنية في الخلف تذكّر بالطبيعة اللبنانية المنتهكة بالاسمنت، أو تكون الخلفية مجرد تلوين بدائي، أو قطعة من سماء زرقاء صافية. في كل هذه الحالات، يكتفي الرسام بأقل ما يمكن. ثمة رغبة شكلانية بالاختزال أو الاقتضاب. الأشجار مثل الموضوعات الأخرى مرسومة باقتضاب، وبدون إتقان كامل. عدم الإتقان يتحول إلى صفة شاملة للمعرض، ويجرف في طريقه الجماليات التقليدية لفن المنظر الطبيعي، أو حتى لفن البورتريه في اللوحات التي يحضر فيها أشخاص. هناك نوع من اللعب والارتجال يقود الرسام إلى خلق توازن ما ثم كسر هذا التوازن أو العودة إلى بقاياه مجدداً. يذكّرنا هذا اللعب بالأشكال والموضوعات غير المتقنة بتأثيرات المدرسة الوحشية، حيث نجد تبسيطاً (وتبشيعاً مخففاً) في الأشكال المرسومة بضربات حادة وسماكة لونية لا ترمي إلى التزويق والثرثرة المجانية. هناك بدائية فعلاً في لوحات المعرض. بدائية تُعيد فكرة الشغف والهواية والمزاج الشخصي إلى الواجهة. بدائية يختار صاحبها العودة إلى تجارب أساسية أقدم في تاريخ الرسم، ويبتعد في الوقت نفسه عن الصرعات الأخيرة في سوق الفن المعاصر. ولذلك تختلط التعبيرات التشخصية مع انطباعات التجريد والتكعيبية أيضاً. اللوحات تمنح الزائر خلاصة ما أو استعارة شعرية. المرأة المستلقية على كنبة فيها شيء من بيكاسو أو ماتيس. والمرأة الضخمة ذات الملامح العادية فيها شيء من غوغان. ولوحات الأشجار تقدم إلينا الأشجار مع الأفكار والتصورات التي تبثها بطريقة مختلفة.
مقارنة بمعارضه السابقة، هناك صفاء وبساطة أكثر في المعرض الحالي. القوة التعبيرية واستعاراتها الشعرية حاضرة أكثر من تجريداته الأقدم. السياسة بمعناها السوسيولوجي واليومي ضئيلة وغائبة تقريباً. ما قد تبدو سوداوية مخلوطة مع حميمية ذاتية، تعكس نفوراً مما يحدث حالياً، سواء في لبنان، الذي عاد فؤاد نعيم للاستقرار فيه منذ عامين، أو في مناطق أخرى ملتهبة في العالم العربي. ولعل كثافة الأشجار والطبيعة والنساء الغارقات في عزلات شخصية ترجمة غير مباشرة للهروب من واقع ميؤوس منه. ولا نستطيع هنا أن نتجنب سلسلة لوحات مدهشة مرسومة بالأسود والأبيض: قارب فارغ يطفو على بحر أسود. امرأة تنشر ملاءات بيضاء. صف من الأبنية المتلاصقة. ربما الأشجار أكثر، وقد حظيت بعنوان المعرض أيضاً، ولكن زائراً ما قد ينحاز إلى لوحات الأبيض والأسود هذه، ويفضّل الاستسلام للدهشة الغريبة التي تبثّها من عوالمها الهشّة والقاتمة.

* «فؤاد نعيم: شجر»: السادسة مساء اليوم حتى 15 كانون الأول (ديسمبر) ـــ صالة «نهى الراضي» في «مسرح المدينة» (الحمرا). للاستعلام: 01/753010