هو شفيق عبود نفسه (1926 – 2004) الذي أَسَالَ في لوحته ممارسات تجريدية عديدة، بعضها أخذ التجريد من غلالات التشخيص والأشكال الواقعية، وبعضها غاص في التجريد الهندسي والصافي. الخليط الذي نشأ من ذلك منح تجربة الرسام اللبناني تلك الغنائية التجريدية المقيمة على حواف المرئيات من دون أن نراها كاملةً، وعلى ثرثرات اللون المستفيضة أوالمقتضبة التي تعكس لحظات مزاجية ونفسية أكثر من كونها استجابةً لإيعازات نظرية وبصرية مسبقة.
عارياته وأشكاله البشرية في المعرض الذي تنظمه «غاليري أجيال» تنتمي، بطرق عديدة، إلى التجريد نفسه والغناء ذاته واللحظة المزاجية عينها. لا يحتاج ذلك إلى إثبات طبعاً، وليس القصد أن نجد صلاتٍ وتشابهات بين مناخات عبود التجريدية وبين ما تقترحه اللوحات الـ 35 من انطباعات واقعية وتشخيصية، إلا أن استبعاد ذلك غير ممكن أيضاً في ظل النظر إلى هذه اللوحات كجزء من تجربة كاملة، ولأن أغلبها مدينٌ لمزاج الاسكتشات والتخطيطات التي تَقَرر أن تكون لوحات عادية.
العاريات لسْنَ جديدات تماماً على شغل الرسام اللبناني الذي استقر مبكراً في فرنسا، معرّضاً عمله لتأثيرات الفنون الباريسية وتحولاتها في الخمسينيات والستينيات. هناك عناصر باريسية باتت من «مقتنيات» لوحة شفيق عبود، وصارت جزءاً من مسيرته التي قضى أغلبها هناك، بينما ظلت بيروت مدينة يزورها أحياناً قبل أن ينقطع عنها نهائياً في الحرب.
اللوحات التي تُعرض بالتعاون مع ابنة الرسام في ذكرى غيابه العاشرة، تجتمع على ثيمة العُري أو الشكل البشري. لم يكترث شفيق عبود كثيراً بتحديد هوية هذا العري، وإن كان أغلبه أنثوياً. العري ليس موضوعاً أو مقصداً صافياً. إنه جزءٌ من تأليف اللوحة كلها. ما نراه ليس أجساداً عارية تمنحنا فرصة أن ننظر باطمئنان إلى أجساد عارية، فهي ليست مكتملة العري أصلاً، كما أنها تدفعنا إلى تأملها جيدأ لتحديد مساحات هذا العري، أو تحديد شكل الجسم وأطرافه، وتنقية ذلك مما يحيط به من خطوط وضربات وبقع لونية تتكاثر أحياناً حتى يصبح العري نفسه خطوطاً ولطخات أيضاً. في اللوحات التي يكون فيها الشكل الجسدي أوضح، لا نجد عُرياً أو وضعيات جسدية نهضوية أو أشكالاً كاملة ذات تشريح عضلي وفيزيائي وكتلوي كامل.
القوة الانطباعية والتعبيرية تطرد هذا التشريح البلاستيكي، ولا تبالي بالانحناءات والتدويرات المثيرة، ولا تمتدح الأعضاء والتفاصيل الجنسية. كأن هذه القوة الانطباعية تبدأ من أشكال جسدية كاملة في المخيلة، ثم تبدأ بمحو أجزاء منها أو إخفاء امتدادات اليدين أو القدمين أو ترك كتلة الجسم كلها في حالة ملتبسة بين الغموض والوضوح. الانطباعات المتلاحقة تمحو ما هو تشخيصي وشكلاني وتحتفظ ببقاياه وأجزائه.
تذكّرنا اللوحات
بتأثيرات بونار وموندريان وماتيس
يبدو ذلك في الخطوط الحادة وفي استخدام اللون الواحد وتدرجاته القريبة. كأن اللوحة الواحدة مشغولة في برهة مزاجية وأسلوبية سريعة وكاملة. إنها دفقة أو ضربة واحدة. هناك تعبيرات حارة وباردة تعيدنا إلى زمن تجريدي أقدم، وإلى غنائيات شعرية تذكرنا بمؤثرات أثيرة لدى شفيق وعبود، وخصوصاً تدخلات المعلم الفرنسي بيار بونار (1867 – 1947)، إلى جانب تأثيرات مونيه وموندريان وماتيس.
بهذه التأثيرات، تجد عاريات شفيق عبود حيزاً جاهزاً في تجربته كلها. فالضربات الانطباعية والتعبيرية تسلك سلوكاً قريباً من التجريد. ورغم أن اللوحات تفترض أن صاحبها يستثمر موديلاً جسدياً حياً أو متخيلاً، إلا أن هذه اللحظة الجسدية – الواقعية منتهكة بارتجالاتٍ سريعة ومكثفة تُبقي على «ذكرى» الجسد كموضوع، وترفع من شأن مخاطبة هذه الذكرى لحواس مختلفة لدى المتلقي المدعوّ إلى اقتفاء أثر الرسام الذي يُبعد العُري عن نقاوته الجسدية (والإيروتيكية أيضاً)، ويمنعه من الاستفراد باللوحة، مفسحاً المجال لإغواءات أخرى تتنفس ما وراء التعبيرات المرئية، حيث يصبح الموديل البشري جزءاً من غنائية شفيق عبود التجريدية، وجزءاً من شعريته اللونية ومسروداتها التي تتضمن أطيافاً وخيالات واقعية مختلطة ومتجاورة مع إيماءاتٍ وتداعيات حدسية وشعورية غامضة. غنائية تجرف في طريقها شكلانية العري واستيهاماته، وتضع الجسد في حالة شعرية تتفاوت بين التجريد والغناء. الضربات القوية، وخصوصاً في اللوحات المنفذة بالأبيض والأسود، تخلخل متانة الغناء وسيولته، ولكن الشكل الجسدي ينطوي على نفسه، ويتأمل نفسه، ويتألف – كما في اللوحات الأخرى – في ضوء التجريد وظلاله.



* «شفيق عبود: عاريات»: حتى مساء الغد ـــ «غاليري أجيال» (الحمرا). للاستعلام: 01/345213