كريستيان غازي (1934 – 2013) ذئب جريح في العراء. السينمائي اللبناني المشاكس يبدو عجوزاً متهالكاً. يحتاج السيروم، ويصف كل شيء بسخرية مريرة. زميله جورج نصر (1927) يتحسّر على أمجاد غابرة. المخرجة نبيهة لطفي (1937) تتحدّث عن عملها بكثير من الحب والتعلّق. الشاعر البعلبكي طلال حيدر (1937) يعمّد كل ذلك بقصيدته الشهيرة «وحدن بيبقوا متل زهر البيلسان». هذه ثنائية السينما والشعر التي يقوم عليها وثائقي «وحدن» (2014 ـــ 49 د، إنتاج قناة «الميادين») للفلسطيني فجر يعقوب (1963).
التيمة ليست بعيدة من نتاج الرجل وسينماه المعهودة. لطالما سخّر «جماليات الإنسان الأرضي» في خدمة الأفلمة والتوثيق. لم يستغنِ عن الشعر واللحن حتى في رصد عسف المخيمات. هو الشاعر صاحب الدواوين الأربعة آخرها «عندما تخلو صورتها من المرآة» (2012). في «وحدن»، يردّد حيدر القصيدة بشكل متكرّر في مكان أثري يحتفي بأوراق الخريف المتساقطة. لم تعد فقط تحيّة لثلاثة فدائيين نفّذوا عملية في الأرض المحتلّة. المناخ كلّه بات معادلاً موضوعياً لثلاثة فدائيّين من نوع آخر. في حاضرهم شيء من الإهمال، بعد حقبة الريادة والتأسيس لسينما لبنانية جديدة.
الفلسطيني عامل مشترك ضمن غالبية التركيبة. الحرب الأهلية اللبنانية كذلك. كريستيان غازي تناول المقاومة الفلسطينية والمجتمع اللبناني المهترئ في «مئة وجه ليوم واحد» (1969 – 1970). الشريط الروائي هو الناجي الوحيد من 46 فيلماً أنجزها خلال حياته الحافلة. الحرق طالها على دفعتين: الأولى في الستينيات على يد «المكتب الثاني» بتهمة الإساءة إلى السياحة، والثانية في الثمانينيات بفعل الميليشيات لأجل التدفئة. في الفيلم، يعلّق غازي بمرارة على الجريمة العبثيّة: «هذه الأشياء تحصل». يضيف لاحقاً: «السينما اللبنانيّة ما فهمت عليّي أبداً. وبموت يمكن هيك، أنّو مش فهمانين عليّي. شو بعملن؟». هذا ما حصل بالفعل. رحل السينمائي قبل أن يلتقيه فجر يعقوب مجدداً. بطبيعة الحال، لا ينسى غازي كتابة الشعر لمواجهة الوحدة البشعة. غير بعيد من الحرب الأهلية، صنعت نبيهة لطفي «لأنّ الجذور لن تموت» (1977) عن مخيّم تل الزعتر. هو فيلمها اللبناني الوحيد قبل أن ترحل إلى مصر. طزاجة الفيلم في ذاكرة الحرب أوصلته إلى باريس الإنقاذ، حيث تجرى عمليات ترميم النسخة الوحيدة المتبقيّة منه. بدوره، جورج نصر أوصل لبنان إلى «مهرجان كان السينمائي» عام 1957، من خلال روائي الواقعية الجديدة «إلى أين؟» (1956)، قبل أن يعيد الكرّة عام 1962. عميد مؤرّخي السينما الفرنسي جورج سادول كتب عنه في «قاموس الأفلام». بعد الحرب، لم يعد نصر يجد منتجاً لسيناريوهاته الجاهزة. ها هو يستعرض رفوفه المكتظّة بالأبحاث والأفلام، مكتفياً بالتدريس والكتابة. يحنّ إلى الأيام الذهبيّة لرائحة الخام وبكرات الـ 35 ملم، رافضاً الإذعان لسطوة الفيديو. هي خيارات الديجتال التي يسخّر يعقوب بعضها في التوليف والتلوين. إنّه نوع من التأكيد على التغيّرات الحادة في السينماتوغرافيا والاشتغال الفني منذ تلك الحقبة. القيم في بيروت تغيّرت أيضاً. عبر تعليقه الصوتي، يقترح يعقوب قراءته في التأويل والنقد وأثر المدينة، موسّعاً مروحة الأسماء حتى الأفغاني عتيق رحيمي والسوري محمد ملص (كلاهما منتج في السينما والأدب). يدفع نحو إعادة تقييم التجارب، كما إعادة تأويل قصيدة مسلّم بها. هذا نوع من التكريم والاعتراف بالفضل أيضاً. بشكل غير مباشر، يبرز الشبه بين القضية الفلسطينية وسينمائيين عملوا من أجلها طويلاً. شبه يمتد إلى فجر يعقوب نفسه من ناحية القضية والسينما والشعر.
هكذا، يجترح الشريط بنية بصرية للسرد في الدرجة الأولى، تشكيلات وكوادر تتفق مع شاعرية الفيلم ورمزية أبطاله، الشعر مسرب سلس لخلق الربط وإنجاز التواصل، موسيقى «السايكادليك» تحيل على نفوس هائمة ومثقلة بالكثير، ثمة لمسة نوستالجيّة أيضاً. فجر يعقوب لا يعرّف بأبطاله، بل يفترض امتلاك مشاهده خلفية عنهم، هذا دأبه في مخاطبة متفرّج ذكي ومطّلع، لكن إشراق «وحدن» واضح بعد كل شيء، لمعة عيني كريستيان غازي، ابتسامة جورج نصر وحديثه عن مشاريع مستقبلية، فرح نبيهة لطفي بالنتائج المشرقة لترميم فيلمها، استمتاع طلال حيدر بقصيدته المتجدّدة. كل شيء، كما البلد، «مزدحم بالأفكار والحياة والحب والود والأفلام». منذ فترة، فاز «وحدن» بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مسابقة الفيلم الوثائقي في «مهرجان مالمو للسينما العربية»، كما نال الجائزة الثانية لأفضل فيلم عن فئة «صورة إنسان» في «مهرجان بغداد السينمائي».



«وحدن» (سيناريو وإخراج فجر يعقوب): 23:00 مساء 6 ت2 (نوفمبر) على شاشة «الميادين»

- Wahdon - Promo - by: Fajr Yacoub from fajr yacoub on Vimeo.