باريس | منذ منتصف الشهر الجاري حتى 25 كانون الثاني (يناير) المقبل، يكرس «المعهد العالم العربي» في باريس فضاءه لاقتراح «زيارة عامودية وأفقية» الى «المغرب المعاصر». سنكتشف أعمال 80 فناناً من الشباب والرواد ضمن سينوغرافيا وضعتها كليمانس فارل، معيدة فيها ابتكار خيط «أريان»، بهدف إرشاد الزائر في متاهات المملكة. صُمِّم المعرض بتناغم تام مع معرض «المغرب في القرون الوسطى» في «متحف اللوفر».
وبهدف الخروج بمعرض على مستوى هذا الحدث الاستثنائي، قام المفوض جان - هوبير مارتان، وهو أحد أبرز وجوه الفن المعاصر، والمفوضان المساعدان موليم العروسي ومحمد متلاسي، بجولات في طول المغرب وعرضه بحثاً عن أعمال فنية. وبناء على هذه الجولة، أقيم هذا المعرض الفريد، المتعدد التوجه، المتناغم مع احترام التعددية والموزاييك المغربي، أكان أمازيغياً، مسلماً، يهودياً، أو عربياً... يمزج الفنانون المغاربة المعاصرون بين وسائط التعبير العالمية المتعلقة بالفن المعاصر، ويعكسون في الوقت نفسه الأسئلة المحلية اللصيقة بانشغالات بلدهم الأم وأماكن اقامتهم.
ورغم كونه شبه غائب أو مضمراً في الأعمال المعروضة، الا أنّ الفقر ظلّ التيمة التي تخيّم على معظم الأعمال. مثلاً، تعكس سلسلة Anes Situ لهشام بن أحد، الحدود الفاصلة بين الأكثر فقراً والأكثر غنى في المجتمع المغربي حيث نصف السكان لم يتعدّوا الـ 25 من العمر، وحيث مستوى البطالة لدى الشباب يصل إلى الثلث. يضع الفنان حميراً في صالون فخم ضمن عرض يعكس التجاور والتشابك بين الريفي والمديني في بلد شديد المركزية. في الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمغرب، يمكن بشكل متكرر رؤية الحمير في الشوارع «تتجاوز الإشارات الحمراء».
لا يمس الفقر المغاربة حصراً. نشاهد الوضع الدراماتيكي للمهاجرين الذين أتت غالبيتهم من المناطق الافريقية في جنوب الصحراء، ويحلمون بعبور مضيق جبل طارق للوصول الى «أرض الميعاد» الأوروبية، ويكابدون مخاطر جمة بالتنقل عبر زوارق صغيرة في البحر. هذا الهاجس يؤرق أيضاً الفنانين منهم عبد الرزاق بن يخلف الذي يقدم سلسلة «مصلوبو اليأس»، وليلى علاوي التي تقدم تجهيز فيديو يعكس معاناة المهاجرين، وسراب الاحلام و الجمال الصحراوي والبحري.
تطرح الأعمال أيضاً أسئلة أكثر عمقاً عن الهوية والمجتمع «الحديث» والاستهلاك. في عمله المصنوع من الكاوتشوك بعنوان «اختراع الآلة سيحرر الرجل الأسود»،
تطرح الأعمال أسئلة أكثر عمقاً عن الهوية والمجتمع «الحديث»


وهي استعادة لأول آلة حصاد اخترعت في الولايات المتحدة، يعود مبارك بوحشيشي الى جذوره. وبحسب رؤيته، الواقعية الاقتصادية هي التي حررت الرجل الأسود، لا الخطابات الانسانية أو القيميّة الأخرى.
الامام دجيمي المتحدر من الصحراء، يقارب التخريب الوحشي والسرقة اللذين تتعرض لهما المواقع الأثرية، ويحاول عبر تجهيزاته توعية الناس والسلطة السياسية على أهمية هذه المواقع. ويبرز التعايش بين الريفي والمديني بطريقة غير مسبوقة في مجال الرقص التقليدي المغربي الذي يحتل مساحة واسعة في «سوق» الفن التي تشهد فورة اقتصادية. منذ منتصف الشهر الحالي حتى آذار (مارس) المقبل، يقدم «معهد العالم العربي» برنامجاً واسعاً يجمع مختارات رائعة من الأنماط الموسيقية الآتية من مختلف مناطق المغرب: موسيقى البربر، الأنماط العربية الشعبية، أغاني الاحتفالات، الشعر المغنّى باللهجات المحكية، الموسيقى الاندلسية ، ايقاع الصحراء، والايقاعات الحالية.
وبين فرق الرقص المدعوة للمشاركة، تبرز فرقة مصمم الرقص لحسن زينون الذي عانى ما يشبه «الاغتيال المعنوي» ابان عهد الملك الحسن الثاني الذي منعه من الرقص لأنّ «الرجال لا يرقصون». يعمل زينون على تحرير الجسد في السينما والرقص، ويقدم «أغاني مازاغان» مع فرقته المؤلفة من مغنين وراقصين متحدرين من المناطق غير الساحلية الذين لم يحصلوا على أي تدريب أكاديمي فني. وتؤدي النساء في الفرقة «العيطة» التي «كانت تؤديها في الاساس نساء متحررات وجريئات قادرات على هز عرش السلطة، وكانت ثمة رغبة في اسكاتهن واضعافهن، وتشويه صورتهن» بحسب زينون. أما الرجال، فيؤدون رقصة قديمة «ذكورية»، تشبه الرقص الايقاعي.
بشرى ويزغن تتبع مساراً مماثلاً في العمل مع راقصات متحدرات أيضاً من الجبال لا يملكن أية خبرة أو تدريب محترف. الا أن مبادرتها مختلفة عن زينون، اذ تستوحي لوحاتها من رباعيات الرومي. الصوفية توغلت بحميمية في الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية في المغرب، وتطورت في الرقص على صعيدين. الأول مقدس (أو ذو طابع ديني) يعود إلى القرن الخامس عشر، ويميزه الاخراج الموسيقي. والثاني غير ديني، يمارس في الحفلات أو في اللجوء الى «الشعوذة» لغايات علاجية، ودخول الجسد جو الموسيقى لعلاج الروح. في هذا الاتجاه، تنحو راقصات بشرى ويزغن اللواتي لا يلبين متطلبات «السوق الكلاسيكية»، ولا المتطلبات التمييزية الجنسية لجسد الراقصة. هن يعبرن عن أنفسهن بحركات تتأرجح بين الرقص والتمارين الرياضية، بهدف إعادة قولبة جسدهن، ودخول حالة الانخطاف عبر تكرار الحركة، وبالتالي التحرر من المعاناة.
حركة الجسد ووحدته مع الروح بحسب المذهب الصوفي، تتجسدان في اللوحة التجريدية ليونس رحمون، ولوحة ناجية محاجي التي تنقل لحظة محددة من النشوة الصوفية حين يعبر الشخص عبر الحركة من الحالة الارضية الى الحالة السموية. أخيراً، يخيم طيف فريد بلكاهية على المعرض. إذ تقدّم أعمال الفنان الراحل الذي يعدّ أحد رواد الفن المعاصر في المحترف المغربي. المواد التي يستخدمها، جلد الخروف، الحنة، اضافة الى المفردات، تسجل في تاريخ تراث الصحراء.

«المغرب المعاصر»: حتى 25 كانون الثاني (يناير) ــ «معهد العالم العربي» في باريس ــ www.imarabe.org