لم ينل تيسير السعدي (1917- 2014) ما يستحقه من تكريم، فقد كان بعيداً من الهتاف والشللية والأضواء. مات وحيداً، ليطوي برحيله، ذاكرة موازية لتاريخ الفن السوري منذ بداياته إلى اليوم. هكذا ذهب بكامل طاقته وحواسه وشغفه إلى مهنة «المشخصاتي»، غير عابئ لاحتجاجات محيطه، هو الذي ينتسب إلى عائلة تنتمي إلى إحدى الطرق الصوفية.
لعل الأب الذي كان يعمل فرّاناً، أراد مصيراً آخر لابنه، فأرسله إلى مدرسة «اللاييك» ليتعلّم. حضوره عرضاً لفرقة الـ «كوميدي فرانسيز» التي زارت دمشق في ثلاثينات القرن المنصرم، أدار حياته رأساً على عقب. هنا اكتشف معنى المسرح الحقيقي، ففي كواليس هذه الفرقة التي عمل كومبارساً في عروضها الدمشقية، تعلّم تقاليد أخرى للخشبة، لا تشبه ما كان يشاهده في عروض خيال الظل، أو «كركوز وعيواظ»، أو عروض الحكواتي، وحتى الأفلام التي كان يشاهدها في سينما «الكوزموغراف».
طوى برحيله ذاكرة موازية لتاريخ الفن السوري
قرّر بإصرار الذهاب إلى القاهرة لدراسة التمثيل، ليكون أول طالب سوري في معهد السينما، إلى جانب فريد شوقي وفاتن حمامة، وشكري سرحان، وسميحة أيوب. لكنّ إفلاسه بعد فترة قصيرة من إقامته، اضطره لمغادرة المعهد للدراسة في معهد خاص يسمح له بالعمل أثناء الدراسة. كان أن عمل في كازينو بديعة مصابني، كما منحته آسيا داغر التي كانت تدير شركة للإنتاج تدعى «لوتس فيلم»، دوراً صغيراً في أحد أفلامها، مقابل نصف جنيه عن الدور، قبل أن يختاره هنري بركات عام 1946 لبطولة فيلم «الهانم» أمام فاتن حمامة. لم يطل به المقام في القاهرة، فعاد إلى دمشق ليؤسس «فرقة التمثيل والموسيقى» بمفهوم جديد للمسرح. على أن المنعطف الأساسي في حياته، أتى على يد حكمت محسن، أبرع القصاصين الشعبيين في تاريخ الدراما السورية. عملا معاً على خشبة المسرح، قبل أن يؤسسا طرازاً مختلفاً للتمثيلية الإذاعية التي تنهض على نكهة شامية حارّة، ستبقى كنزاً ثميناً في أرشيف إذاعة دمشق. اشتهر تيسير السعدي بتمثيلية «صابر وصبرية» مع شريكة حياته صبا المحمودي، وهو بهذا ينتمي إلى زمن الراديو أكثر من انتمائه إلى زمن الصورة. ذلك أنّ إطلالاته التلفزيونية والسينمائية، كانت نادرة. لعل السعدي كان ضحية مناخ عشوائي، لا دور حيوياً، لفنان مثقف مثله، في مهنة تسمح بتفوّق الدخلاء وأذكياء العلاقات العامة، فانكفأ إلى عزلة طويلة، ببصرٍ شحيح وذاكرة متوقّدة، وشجن على عمر مثقل بالآلام، هو الذي ولد في الحرب العالمية الأولى، ورحل في حربٍ أخرى ما زالت مشتعلة.