استضافت فعالية «أرصفة زقاق» أخيراً عرض «سعادة عائلة صغيرة» للمخرج ومصمّم الرقص المصري محمد شفيق. عمل يدمج الرقص المعاصر بالمسرح، طارحاً إشكالية الفرد والسلطة عبر تجسيد علاقة ثنائي في المنزل.
يبدأ العرض بدخول الثنائي الفرح الى مقدمة الخشبة: رجل نحيف ذو وجه متعب يحمل كيسين بلاستيكيين، وامرأة منطلقة ذات ابتسامة عارمة. ينظران سويةً الى الجمهور. الرجل يود قول شيء لكنه يمتنع. في اللحظة التي تترك فيها المرأة المسرح وهي في أوج ابتسامتها، يحاول بوح جملة لا تصل الى خواتيمها. يحاول مجدداً لكن عبثاً. يستعيض عن الكلام بمشهد حركي طويل. هذا الزوج الذي يلعب دوره محمد فؤاد ركز في حركته على منطقتي الكتف والظهر: هما أشبه بمحوري الحركة اللذين انطلق منهما جسد محمد فؤاد. كانت حركات الكتف تنعكس على مستوى العنق بتشنجٌ خانقٍ أحياناً وبانقباض على مستوى كل الجسد، كما لو أن المؤدي يتعرض للكمات أحياناً، أو كأنه تلك الشخصية التي اقترفت ذنباً ما. من يراقب ملياً المسار الحركي لهذا المشهد، يلاحظ أن السميولوجيا الحركية تحيلنا على صورة الفرد الضعيف المقموع: في لحظات عدة، كان ينظر الى أعلى منحنياً كما لو أنه لا يستطيع تخطي سقف ما. ظهره مثقل ومحني يحاول الصعود الى أعلى في حركته ولكنه لا يستطيع. يستعين بيديه، فيبدو كأنه سمكة تتخبط في شبكة صياد. لشدة ما تعرض هذا الفرد لفصول من القمع والذل، بات مازوشياً يسعى بملء ارادته للتعرض للقهر والذل. في سياق العرض، تتوالى المشاهد التي تعيد تشكيل تلك الفكرة: بعد عناق يجمع الرجل بامرأته، يمسك يدها ويبدأ بصفع نفسه. كما لو أن الزوجة التي تقوم بصفعه. سرعان ما تتحول تلك الصفعة الى مشهد حركي آخر، تميّز بكوريغرافيا جميلة، لا تخلو من تصعيد على مستوى إيقاع العرض، حافلة بتفاصيل مضحكة.
تتحول الصفعة
إلى مشهد حركي آخر ذي كوريغرافيا جميلة

الرجل يريد أن تضربه تلك المرأة، هو يبحث عن تلك اللكمات التي تعرض لها ويتوق لأن يتحول الى ممسحة أو كلب. تترسخ تلك الفكرة في ذهن المشاهد من خلال المونولوج الذي يلي المشهد. الزوج يتقدم خشبة المسرح متوجهاً الى الجمهور: «انتا حضرتك لو عايز تختبر القتل. انتا ممكن تقتلني. لو عايز كلب ولا كده. أنا ممكن أكون الكلب بتاعك». تقاطع هذا المونولوج مع مشهد في الخلفية حيث تقطع الزوجة التفاح والموز وتضعهما في خلاط العصير ضاغطة على كبسة الخلاط، كأنها بذلك «تهرس» الموز والتفاح والرجل معاً. مشهد آخر يتحوّل فيه الرجل الى كلب يخضع لجلسة ترويض تمارسه عليه تلك المرأة. إنّه اذاً المواطن العربي المذلول من السلطة، المستسلم والخانع لقدره. لكن عن أي سلطة نتحدث؟
المرأة رمز السلطة في هذا العرض. بالإضافة الى اتقانها العربية، تتقن الفرنسية، الألمانية والإنكليزية. تعدد اللغة يأتي في سياق العرض ليحمّل السلطة بعداً آخر يحيلنا على تلاعب القوى العظمى بالشعوب الصغيرة والضعيفة. تلك السلطات العربية، التي تمارس قمعها على المواطن بحيث أصبح يزفر ذلاً بات يتلقفه في كل سلوكياته، هي بدورها خاضعة لإذلال القوى العظمى. تلك المرأة التي تجيد كل اللغات، تتقن الغناء أيضاً وتنجح في إعجاب سامعيها وإغرائهم تماماً كما تجيد تلك القوى التلاعب بجماهيرها. نوع آخر من السلطة والتلاعب لمحّ اليه العرض بذكاء يتمحور حول سلطة الميديا والتلاعب الإعلامي: ترجم ذلك بمشهد لا يخلو جمالية عن سابق المشاهد وبدلالة الميكروفونات الأربعة التي شكلت جزءاً أساسياً من السينوغرافيا ولم يكن وجودها وظيفياً فقط. لم يلجأ الممثلون الى تلك الميكروفونات الا في أماكن محددة ولهذا دلالاته أيضاً. الأمر الذي أضفى جمالية صوتية على العرض تضاف الى باقي العناصر الصوتية.
رغم أن العرض كان متقناً في غالبيته، إلا أنه لم يخلُ من بعض الثغرات: محمد فؤاد الذي يبدو أنه راقصٌ أكثر منه ممثلاً بدا أقلّ إتقاناً لبعض المشاهد التمثيلية من زميلته ندى الشاذلي التي كان حضورها مميزاً. لا يمنع ذلك من قوة وجوده على الخشبة بشكل عام وبنجاحه في تجسيد دور الفرد المقموع الذي سلبت كرامته. كذلك وقع العرض في بعض الكليشيهات كمشهد الجلوس على العشاء حيث يقوم الثنائي بحوار يراوح بين عتاب ودّي وتعبير عن الحب. وهنا يبدأ -كل منهما ولدى كل جملة يقولانها- بإطلاق النار ايمائياً على بعضهما. هذا الاستعمال للمسدس بتلك الطريقة بدا طفولياً ومستهلكاً اذا قورن مع باقي المشاهد التي تميزت بأداء قوي وبجمالية جسدية، أدائية، بصرية وصوتية. انتهى العرض كما لو أنه لم ينته، كما لو أن مسلسل القاهر والمقهور لن ينتهي، تتم إضاءة قاعة الجمهور. يجلس الثنائي على حافة الخشبة: حان وقت العصير. لم يكن ما رأيناه مجموعة مشاهد مسرحية فحسب، بل صفعات متتالية كان آخرها دعوة الجمهور لشرب العصير: عصير الموز والتفاح والمواطن «المهروس»!