باريس | بسهولة نستدلّ على ياسمينا ريزا (1959). آثار مخالبها في كل مكان. تُرجمت نصوصها إلى ثلاثين لغة ولاقت إقبالاً كبيراً في المسرح الخاص في باريس، بينما أوصدت المسارح العمومية أبوابها، رافعة شعارها الصدئ المعتاد «لا تستحق العرض». رغم أن ريزا ليست من مرتادي الصالونات الأدبية وحفلات التوقيع ولا تظهر على الشاشة للدخول في سجالات حول مؤلفاتها، يعتبرها الفرنسيون محبة للبهرجة، ميّالة لصحافة المشاهير في وقوفها أمام العدسة بفساتين المصممين اللامعة وتسريحات الموضة.
حين كشفت دار «ألبان ميشال» عن لائحة افضل مبيعاتها في النص المسرحي خلال السنوات العشر الأخيرة وتبين أن كتبها هي الأكثر مبيعاً، بل متفوقة على غيرها بنسبة كبيرة، سارعت مجلة «نوفيل اوبسرفاتور» لطرح سؤال مقلق: «لماذا ياسمينا ريزا وليس سواها؟» كأن على الكاتب الفرنسي أن يكون استنساخاً موفقاً لفيكتور هوغو. ردّت «نيويورك تايمز» ببساطة في عنوان عريض: «لندن تحب ياسمينا ريزا» وليس في نية هذه الخمسينية الساحرة أن تكون النعجة دوللي. يكفي أن ألمانيا وبريطانيا فتحتا لها أبواب «مسرح شكسبير الملكي» والمسرح الوطني، ومنحتاها اكثر جوائزها شهرة كجائزة «لورانس أوليفييه» لأفضل عرض مسرحي.
يوم حضرت مناقشة أطروحة دكتوراه حول أعمالها في الـ «سوربون»، اعترفت أنها شخصياً غير قادرة عن الإجابة على أي من الأسئلة التي طرحتها اللجنة: «بيّن عن طريق أمثلة كيف استطاعت الكاتبة أن...» ولنا أن نقف مثل طالب مرتبك، تعوزنا الكلمات لوصف لحظة البدء، البدء في الانحدار، حين تحاول شخصياتها أن تتلمس مبرراً لذلك الرعب الذي بدأ يقبض على أنفاسها ببطء. يستيقظون في يوم عادي لتفجعهم حقيقة وضعهم وعلاقتهم مع الآخرين رغم أن «كل شيء، كل شيء مثلما كان دائماً». وبدءاً من هذه اللحظة، يصبح من العسير النهوض والاغتسال وتأجيل الأحزان الى وقت لاحق. متى تصبح الأرض رخوة تحت أقدامنا وننزلق؟ قلّة صبر، خوف من الفقد، نوازع قتل طافحة، جنون... كل هذه الأسباب ممكنة لتقول صاحبة «حوارات بعد مراسم دفن» إن ما نحسه لا يأخذ في الواقع شكلاً لغوياً، ما نعبّر عنه ونظنه أفكاراً، هو مجرد استعارات وانتحالات. أن «نقول» حقاً، مهمة في غاية الصعوبة. تحاول ريزا أن تتنفس بعيداً من مصيدة الحب، ترفض أن تتوكأ على الحنين والصبر وضرورة الوهم لتستمر الحياة. تقتطع بمقصها مشاهد من الواقع لأناس يمتلكون عبقرية انتقاء الشريك الخطأ الذي يسرقهم شيئاً فشيئاً من يقينهم. ويبقى الرهان على ما يتراكم من سوء فهم لغوي بين البشر، هذا المأزق يبلغ حدته في مسرحية «إله المجزرة» أو «مجزرة» (2006) الذي حوّله بولانسكي إلى فيلم Carnage من تمثيل جودي فوستر وكايت وينسلت. تدور الحكاية حول طفلين يتشاجران في ساحة المدرسة بسبب رفض أحدهما انضمام الآخر إلى شلته. يفقد أحدهما بعض أسنانه فتقرر عائلتاهما الالتقاء للتحدث بشأن الحادثة. بين المحامي الذي يوقف الحوار ليردّ على هاتفه بفظاظة، ومن تكتب كتاباً عن محنة دارفور، ومن يعذبه ضميره لأنه رمى هامستر ابنته في بالوعة، لا تلبث عبارات المجاملة الاجتماعية أن تصبح فخاً يؤجج صراعاً عبثياً ويحول الأمسية الحضارية إلى فوضى مضحكة.
اليوم في بيروت يتم تجسيد النص على خشبة «مسرح مونو» بالمحكية اللبنانية. ما يتطلب من المخرج كارلوس شاهين التقاط رهافة النص الفرنسي وبناء متمهل للشخصيات قبل إحالته على بيئة مختلفة. حسناً أين هوبز ليعيد على مسامعنا «الحق والباطل من صفات اللغة لا من صفات الأشياء، وحيث لا نجد لغة لا نجد حقيقة أو بطلاناً»؟. بل أين سقراط و«تكلم حتى أراك»، لن يصدّق أن حروفاً أصغر من جناح ذبابة قد تسببت لنا في كل هذا العمى، كل هذه اللجاجة واللهاث والدوران البائت، ليأخذها الشيطان!