قد لا يتناول فيلم «الرئيس» (2014) للإيراني محسن مخملباف الذي عرض ضمن «مهرجان بيروت الدولي للسينما» الثورات العربية بطريقة مباشرة. قد يكون بورتريه الديكتاتور المجهول للبلد الافتراضي الذي يصوّره الفيلم أقرب إلى فلاديمير بوتين منه إلى رئيس عربي، رغم النهاية الرهيبة التي يواجهها. تحار الجموع في أفضل طريقة لقتله وتعذيبه، ما يتماهى مع نهاية الرئيس الليبي معمر القذافي.
لكن هذا كله يبدو جزءاً من الطرح السينمائي الذي يتبناه مخملباف في هذا الشريط، مستكشفاً ببراعة قدرة الصورة على تصوير كل تناقضات الواقع المجرد والمتحرر من قيود وإسقاطات التحليل السياسي. إنه يعيدنا إلى الجانب الإنساني البسيط من الحكاية، وينطلق منه ليروي ما هو أكثر تعقيداً والتباساً، متخطياً حدود التعريفات والتقسيمات التي قد تبسط مفهوم الخير والشر، مختاراً تفكيك صورة الوحش الكامن في شخص الديكتاتور من خلال العلاقة التي تجمع الأخير بحفيده. يبدأ الشريط بمشهد يعبّر برمزية عن لعبة السلطة. نرى الديكتاتور وهو يلعب مع حفيده، فيأمر بإطفاء كل أضواء المدينة ثم يأمر بإضاءتها من جديد، ثم يمرر الهاتف للطفل البالغ خمس سنوات ليأمرهم بدوره. لكن الأضواء لا تعود لأنّ الثورة تندلع، فيما الحفيد يظن أنّ اللعبة هي السبب. نفس الرمزية الساخرة واللماحة نراها لاحقاً في العلاقة التي تجمع الديكتاتور بالطفل، والتماهي بينهما كما عندما يهربان معاً لاحقاً ويضطر الطفل لقضاء حاجته في الطبيعة، فيطلب من جده ـــ «جلالته» كما يسميه ــ أن يمسح له مؤخرته. يخبره أن يفعل ذلك بنفسه، فيجيبه الطفل بأنه لم يسبق له «أن مسح مؤخرته بنفسه»، فيرد عليه الديكتاتور: و«أنا أيضاً». ثم يحمل حفيده على عجل لدى اقتراب الجنود الذين يطاردونهما ويغرف بعضاً من الماء القذر المتجمع على حافة الطريق، لينظف مؤخرة الصبي. تفاصيل أخرى صادمة يجسدها مخملباف على الشاشة بالحس السينمائي الفج نفسه.
لقطات مصممة بطريقة هندسية تعكس عالم الديكتاتور
هذا ما نراه عندما يلجأ الديكتاتور وحفيده إلى المومس، فيصوّر حديثها مع الديكتاتور وهي على المرحاض تغرف الماء لتنظف الدم الذي يسيل منها بسبب دورتها الشهرية. أما الديكتاتور فيكون جاثماً إلى جانبها يترجاها لتساعده وحفيده، أو عندما صوّر السينمائي الإيراني أرجل الأسرى المدماة من التعذيب، فيما يغطي الديكتاتور ــ الذي أمر بتعذيبهم بالمناسبة ــ عيني حفيده كي لا يراها. يتقصد مخملباف التركيز على هذه التفاصيل الفظيعة بقسوتها. يقحمها بطريقة اعتيادية لتشكل جزءاً مهماً من سرده السينمائي، متحدياً المشاهد لتحمّل النظر إليها ومواجهة جماليتها المبكية. يتمثّل ذلك في مشهد الأسير الذي يزحف ويجاهد ليقف على رجليه المتقرحتين أمام بيت حبيبته ليكتشف أنها تزوجت بآخر أثناء غيابه، فيطعن نفسه أو المرأة التي يغتصبها الجندي في عرسها، فتقتل نفسها أيضاً. مرعبة هي الخلاصة التي يعرضها مخملباف حيث يبرز الانتحار/ الخروج من الحياة بوصفه وسيلة النجاة الوحيدة من كل هذه الفظاعة. لن تنتهي دائرة العنف والقتل برحيل الديكتاتور الذي ولّد بوحشيته وحوشاً أخرى. يبرز المشهد الأخير حيث يعثر الشعب على الرئيس وحفيده ويحار في أفضل طريقة للانتقام منه، سواء بحرقه أو بقطع رأسه وقتل حفيده أمام عينيه، كتذكير ببداية الربيع العربي حين جاء مقتل القذافي بتلك الطريقة الوحشية. كأن الخطيئة الكبرى كانت عند الانزلاق إلى الانتقام ودائرة العنف والقتل المغلقة كما يعرض مخملباف. إلا أن الصورة الأخيرة للطفل الذي أنقذه أحد ضحايا جده على الشاطئ، فيضع يديه على أذنيه كي لا يسمع، قد تعكس رؤية مخملباف الفريدة التي تبحث في جمالية الفظاعة. بينما تعكس اللقطات المصممة بطريقة هندسية عالم الديكتاتور المحكم السيطرة في بداية الفيلم، تبحث الكاميرا لاحقاً عن النبض الإنساني حتى في وجه الديكتاتور نفسه الذي تتغير تعابيره تدريجاً ويرتسم عليه القلق والذعر، رغم قسوة المشاهد التي تعرضها، ما يخرجه من صورة الوحش إلى الإنسان ولو للحظات قبل موته.