كتاب "الزمن في القصيدة" للشاعر شربل داغر الذي صدر قبل أشهر عن «دار رؤية للنشر» في القاهرة، يحتوي على سبعة فصول يسائل من خلالها «الزمن في القصيدة»، لكي يذهب إلى ما هو أبعد، فيبحث عن الإنسان في عمق وجوده من خلال تجلّياته الفكرية وما قد ينتج عنها من ترددات يصعب تجاوزها أو إخفاؤها. أراد داغر أن يتكفّل كتابه «بفحص علاقة اللزوم التي يجدها متحققة بين القصيدة والزمن، وهو ما يدرسه في أبنية القصيدة العربية، الحديثة خصوصاً، متبيناً أشكال الترابط بين زمنيتها وبين علامة حداثتها، أو عصريتها».
التوقف عند دراسة العلاقة بين القصيدة والزمن خطوة لا تنتمي إلى النقد الادبي والشعري فحسب، إنما تنمّ عن قلقٍ فلسفي، وعن ترصّد لمسألة شكّلت محور تفكرٍ غنيّ عبر تاريخ الفكر الإنساني. ليس الزمن مصطلحاً عادياً يمكن أن يُقارب في نظرية محدّدة، أو مذهب معين، ويجوز أن نعثر على حد واضح وصريح له. إن الأمر يتعلق بمحاولة جدية تستحق التوقف والتأمل في مفاعيلها، إذ إنها تربط القصيدة بالزمن أي بالتاريخ، والمجتمع، والاقتصاد، وأثر ذلك على عملية إنتاج المعنى. إنه يحاول أن يدعم الأبحاث المتراكمة حول الشعر من فقرها في ما يخصّ الحس التاريخي وتداعياته. ينغمس بالزمن، ويغرق في رصد تردّداته داخل بنية النص الشعري.
إن هذا الانهمام بترصّد فعل مرور الزمن وما يتركه من أثر على ما أنتجه الشعراء من قصائد عبر التاريخ كان قد ظهر في كتابات داغر التي انشغلت في السنين الأخيرة بدراسة الشعر العربي الحديث في وقفة أولى مع "القصيدة العصرية"، وأخرى مع "كيان النص"، وأخيرة مع "القصيدة المنثورة". يتحدّث داغر عن مَعلَمين في ما يتعلق بعلاقة القصيدة بالزمن: الأول يسمّيه المرور والثاني الانتقالات. ويقصد بمرور الزمن في القصيدة تلك "الآثار الحادثة والمتعينة فيها، ما يدلّ على زمنها من دون غيره"، ويعني بالانتقالات "ما ترسمه أبنية القصيدة من تغيرات وتشكلات في مستوياتها المختلفة".

المرور والانتقالات

إنّ المَعلم الأول تمّ تجاهله في محاولات عديدة لدراسة الشعر العربي الحديث، إن لم نقل في معظمها. وهناك شيء ما قد تبدّل بفعل مرور الزمن. لا يمكننا أن نتعاطى مع القصيدة اليوم كما لو أنها هي نفسها في العصر الجاهلي أو الأموي أو العباسي. الزمن اخترق بنية القصيدة وترك بصماته فيها. أما من ناحية المَعلم الثاني، أي الانتقالات، فيجد داغر أن هناك تغيراً واضح المعالم قد حدث على صعيد هيأة القصيدة الخطية، وإيقاعها. نعرف تماماً كيف تبدّلت كتابة الشعر وكيف تعدّدت أشكالها، حتى إن بعض القصائد باتت تُكتب وفق أشكال هندسية متنوعة، ونجد أمثلة عليها في كتابات داغر نفسه. إنه يكشف، في دراسته هذه، عن ثلاثة أشكال من الزمن فعلت فعلها بالقصيدة: هناك الزمن الاجتماعي، والزمن السياسي، والزمن الفردي. يبغي أن يتوقف على صعيد المنهج عند فحص العلاقة الكامنة بين القصيدة وكل واحد من هذه الأزمنة. ثم يخطو في اتجاه معالجة العلاقة الكامنة بين الفصاحة والحداثة، ليرفق ذلك بخطوة منهجية أخرى تنهمّ بمعالجة وعي الخطاب الشعري لنفسه، ولزمنه، مبتعداً في دراسته عن الجانب التحقيبي من غير أن يغيب المسار التاريخي فيه. من هنا، نجده يشير في المقدمة إلى أن هدف الكتاب يكمن في "الوقوف على علاقة الشعر بزمنه التاريخي والاجتماعي والفردي والسياسي، ما يجعل الدرس مقيماً في نطاق تداولي قد يكون تنازعياً في أحوال عديدة. ذلك أن هذه العلاقة قد لا تكتفي بالتتبّع أو المعاينة أو الإخبار وإنما بالإنشاد والتخيّل والتشهّي وغيرها، ما يجعل علامات التجديد نفسها علامات إشكالية بالضرورة".
بدأ كتابه بدراسة شعر نزار قباني منطلقاً من مجموعته الأولى "قالت لي السمراء"

تكمن، هنا في التحديد، الجدّة التي لمسناها في طيات هذا الكتاب، في هذا الكسر الفاضح والصريح للحدود القائمة بين علوم الإنسان واللغة، وبين المناهج المتعددة التي يمكن اعتمادها في دراسة شعرية القصيدة.
البعد الفلسفي لافت في دراسته، فالتوقف عند السؤال عن الزمن في عمق القصيدة لا يعدو كونه «السؤال عن الإنسان في نطاق وجوده غير القابل للتجاوز أو الاخفاء». ويرى أن الزمن في القصيدة يمكن أن يكون متحجراً داخلاً في التقليد، ومتجمداً في أروقته الرتيبة. كما يمكنه أن يكون زمناً متحولاً في شعر آخر، باعتبار انه زمنٌ فرديٌ، معاشٌ بالعمق وفق أبعاد التجربة الإنسانية المتاحة في تاريخ ومجتمع محددين. ليس الزمن معطىً "برانياً" أو "موضوعياً"، كما جرت العادة على تصويره، وتسميره داخل اطار ضيق. فكما أن الانسان خاضع لعوامل التبدّل والتحوّل والتغيير في كل لحظة من حياته، كذلك هو الزمن المتجلّي في القصيدة باعتبارها نتاجاً إنسانياً بامتياز.

القصيدة بين الزمن والإنسان

إن الجمع بين السؤال عن الزمن والسؤال عن الإنسان في دراسة القصيدة هو في حدّ ذاته فعلُ تفكرٍ فلسفي يذهب بنا إلى أبعد ما يقدمه مثلاً المنهج البنيوي أو السيميائي في دراسة النص الشعري. يقول: "إذا كان أرسطو جعل من الزمن "عددَ الحركة"، فإن للدارس أن يتوقف ويُعاين أعداد وعلامات الحدوثات الزمنية، التي لا تتعيّن فقط في العيش، أو في الوصف، أو في الحساب، وإنما تتعيّن أيضاً في زمن آخر، تخيّلي، وغير مادي. لهذا يكون السؤال عن الزمن سؤالاً عن الإنسان، عن حاصل وعيه بالتغيّر (أو بالجمود). ذلك أن تعيينات الزمن مقرونة بالحركة، بالحراك، فيما قد تتعيّن القصيدة بالثبات، في الاستعادة، في قيافة الأثر، في أحسن الأحوال".
القصيدة عند داغر هي في آن معاً: صنيعٌ كتابيٌ وفعلٌ إنساني. إن اعتبارها صنيعاً كتابياً يفرض عليها الالتزام بأساليب وقواعد ترتضيها لنفسها، وهي بإمكانها أن تحورها أو حتى تنقضها في كل مرة تقوم بالبحث عن أساليب بهدف تحقيق بناء جديد. كما أن اعتبار القصيدة فعلاً انسانياً يجعلها تتحرك في أكثر من اتجاه، إذ بامكانها أن "تحاور وتأمل وتُنهي وتُشجع وغيرها من الأفعال التي تومئ القصيدة إليها أو تدعو إليها صراحة".
اختار داغر أن يبدأ كتابه بدراسة شعر نزار قباني منطلقاً من مجموعته الشعرية الأولى "قالت لي السمراء"، في فصل أول عنوانه: "مع نزار قباني، بلوغ القصيدة المدينة". تسلط هذه الدراسة الضوء على الهيأتين اللتين تظهر فيهما القصيدة أمام القارئ والناقد على حد سواء وهما: الهيأة البصرية ويقصد بها الصيغة الطباعية المظهرية، والهيأة اللغوية أو اللفظية. نجده يتحدث عن النقلة من العروض الى "المَوسقة"، وعن "تحيين المعنى" وربطه بالزمن الحاضر من خلال البحث في المحور الجبلي والمحور اللوني والمحور الجنسي ومحور الألفاظ الداخلية أو العامية المأنوسة. كما يتوقف عند البنية التخاطبية في نص قباني، وعند ما يسميه بـ"التعالقات" النصية، وهي صلات "تناصية" بين نزار قباني والياس أبو شبكة وصلاح لبكي وسعيد عقل وغيرهم، من جهة، وبين قباني وبول جيرالدي وشارل بودلير، من جهة أخرى.
ويتابع جولته لكي يتوقف في الفصل الثاني عند دراسة كتاب أنطون سعاده "الصراع الفكري في الأدب السوري" لما يفتحه من مجال للتعرف إلى آراء عدد من الأدباء العرب بخصوص التجديد الأدبي، ولما يحتويه من معالجات نقدية يقوم بها سعاده لنماذج شعرية مهجرية بالمقارنة مع ما ينتجه هو، أي سعاده نفسه. كما يتوقف، في الفصل عينه، عند دراسة تردد أصداء نظرية أنطون سعاده في ما كتبه أدونيس في نصوص عدة لعل ابرزها المطولة الشعرية "دليلة". عنْوَن داغر هذا الفصل بـ: "تواشجات الايديولوجيا والحداثة: مبثوث الزمن"، وقدّم له ببحث تنظيري غني حول مفهومي الايديولوجيا والتواشجات، متوقفاً عند ما يربط بين الايديولوجيا والحداثة من تجاذبات.
أما الفصل الثالث فيطرح فيه مسألة العلاقة بين الشعر والنثر، وظهور زمن ما يسميه داغر بـ "القصيدة بالنثر" او "القصيدة نثراً"، كبديل مما بات يُعرف بـ "قصيدة النثر". يتوقف هنا عند رصد زمن جديد، يتجلّى في نمط كتابي مختلف، ولّد من الفعل وردود الفعل ما يستحق الدراسة. "ابتداء الشعر من الشاعر، ابتداء القصيدة من الكتابة"، هو العنوان الذي اختاره داغر لفصله الثالث حيث يبدأ بتفكيك قصيدة لأنسي الحاج مستلة من ديوانه: "ماضي الأيام الآتية"، وينتهي إلى الإشارة بأن القصيدة باتت "في عهدة الشاعر، يتصرف بها وفق ملكاته وتدبيراته، قبل أن تكون مرتبطة بقواعد أو معايير. هي تبتدئ من الشاعر، من دون أن يعني هذا أنه يُنشئ القصيدة من عدم، من بداية تدشينية، إلا أن هذا يعني أن الشاعر ينصرف إلى معالجاته في الكتابة بوصفها تجربة قيد التشكل، و"تتوازن" بنيتها في العمل عليها".

بين الفصاحة والحداثة

في الفصل الرابع، الذي يحمل عنواناً جدلياً: "تنازع القصيدة بين فصاحتها وحداثتها"، يعالج داغر مسألة الفصاحة والبلاغة في علاقتهما مع الحداثة الشعرية، مبتدئاً بالمقارنة بين ما قاله الكِسائي في القرن الثاني للهجرة من خلال ما ورد في كتابه "ما تلحن فيه العامة"، وما قاله ابراهيم اليازجي وأسعد خليل داغر في نهايات القرن التاسع عشر، وبين كل ذلك وما نشهده اليوم من أحوال راهنة للفصاحة في الكتابة العربية. نجد في هذا الفصل بحثاً معمقاً حول مفهوم الفصاحة وحول أهمية الإحياء اللغوي، من أجل استعادة الفصاحة المفقودة. والملفت أنه منذ القرن الثاني للهجرة وحتى اليوم مروراً بعصر النهضة والدعوة قائمة لاحترام قواعد القول الفصيح، والعمل على تنقية اللغة العربية مما أصابها من أعراض مختلفة، على سبيل المثال: دخول بعض الالفاظ الاجنبية، وتسرّب العاميات، والبلبلة القائمة بين المحكي والمكتوب، وغير ذلك. يتحدث داغر عن فصاحتين: واحدة لغوية وأخرى أدبية، كان لكل واحدة منهما نشأة مختلفة (نشأت الاولى في القرن الثاني للهجرة، والثانية في القرن الرابع الهجري)، وعلاقة تتراوح بين التداخل والتمايز والتبعية، إذ يشير إلى أن الفصاحة الأدبية تبعت الفصاحة اللغوية زمناً وتقيدت بقواعدها الفصيحة. كما يتناول بالبحث الرابط القائم بين الفصاحة والبلاغة، لكي يرصد في ما يلي كيفية تحول الفصحى "الى لغة العرب المصطفاة، ديناً وقومية أيضاً". وكأن بداغر يشير، من خلال هذا الاشتغال على الفصاحة، إلى أمر مهم يتعلّق بالزمن، وبحركة جريانه. وكأن الغرق في الفصاحة إبطال لحراك الزمن في اللغة. على الرغم من أن الفصاحة قيمة أسلوبية جمالية، وهي القيمة المرجوة والمآل والمرجع، إلا أنها بذلك تعطّل دخول الزمن كعامل في تجديد اللغة وتوليد جماليات جديدة لها. يقول: "إن ميراثاً كتابياً بمناعة الفصاحة لا يمكن تجاوزه او تخطيه بين ليلة وضحاها، ولا خلال عقود من السنوات وحسب، ولا سبيل الى ذلك الا بمدّه بأسباب الحياة نفسها. يكفي للتأكّد من ذلك النظر الى قصائد عمودية حالية ذات لغة فصيحة، وتراكيب سليمة المبنى، الا أنها مجوفة تماماً، من دون حساسية أو عصب، مثل طبل مثقوب".
يختم هذا الفصل بوقفة ثانية مع أنسي الحاج تميّزه عن الآخرين باعتباره قادماً من "لغة مختلفة تتصل في مصادرها بالعامية اللبنانية"، وبمصادر أخرى يكشف عنها في سياق الدراسة. كما يبرز التركيب المبتكر لدى أنسي الحاج الذي لا يهاب "حرمة" العربية، إذ يجترح "الانتهاكات الإبداعية للغة المحروسة". يلفت داغر هنا الى الدور الذي لعبته لغة الصحافة في هذا التجديد والخروج عن المألوف لدى أنسي الحاج وغيره، اذ نجد معه ان أبرز شعراء الحداثة كانت لهم بدايات صحافية. يقول عن أنسي الحاج إنه "وليد التجربة اللبنانية في "العربية الجديدة"، بعد أن صفت ورقّت في طراوتها وجزالتها واستمدّت الكثير من المعاني الوليدة والتراكيب المنحوتة-هذه العربية الجديدة التي وجدت في الصحافة منبتها ومختبرها، على ما في الجريدة والمجلة من تعايش للمحكي والمكتوب في آن".
يعود بنا داغر في الفصل الخامس الى زمن الشعر العباسي الفصيح لكي يدرس العلاقة الكامنة بين النوع الشعري والزمن نفسه، ولكي يتأكد من صحة ما يُقال بأن بعض الشعر العربي القديم كما الحديث يعكس الزمن الذي كتب فيه، وبأن القصيدة "شفافة لزمنها". من هنا عنوان الفصل: بين النوع الشعري والزمن، وهو يُعنى بـ ما يسمّيه "ما قبل النص"، اي ما يسبق النص نفسه، وما يفعل في بنائه، من "مسودة النص أو العمليات الكتابية الجارية فيها، وغيرها مما يدخل في تكوين النص". يشير داغر الى ان الدرس اللساني البنيوي لم يلحظ بالضرورة هذه الامور إذ بقي منهمّاً بحدود النص الداخلية، بمعنى أن التركيز يتمّ فقط على تشكّلات البناء اللغوي للنص من دون سواها. نجده يتوقف عند دراسة نماذج من أبي نواس، والبحتري، وابن الرومي بهدف "التعرف التاريخي والنقدي إلى "النوع" الشعري، وأصنافه في المدونة النقدية العربية القديمة". كذلك بهدف "إجراء مقابلة بين الأنواع في هذه المدونة وبين القواعد البنائية لقصائد بعينها، بما يدلّ على التوافق أو الاختلاف او الخروج عليها".
يعالج مسألة الفصاحة والبلاغة في علاقتهما مع الحداثة الشعرية


خروج القصيدة من العروض

يطالعنا الفصل السادس بالسؤال عن بدء توقيت كتابة تاريخ الحداثة في الشعر العربي، وعن الادوات المستخدمة لهذا الغرض. انه سؤال ملغوم بدفعة عالية من النقد. يبدو أن داغر قد عمد من خلال الفصل السادس الى إحداث صدمة في وعي القارئ، وكأن به يقول ان البدايات التي وضعت ليست دقيقة، والادوات التي استخدمت في التأريخ للشعر العربي الحديث، ليست كافية، والمنظور المسيطر على هذه العملية ينقصه التدقيق والمزيد من الحفر وتوخّي الحذر العلمي. تحت عنوان "السؤال عن الحداثة في الخطاب عنها"، يقوم داغر بمراجعة نقدية لمجمل ما كُتب حول وضع بداية تاريخية للحداثة في المجال العربي. يفنّد في سياق دراسته سبيلين تمّت من خلالهما دراسة الحداثة عندنا، مظهراً اسباب قصور كل منهما، إنهما: السبيل الطبيعي، والسبيل الصناعي.
يشكّل الفصل السابع والأخير الفصل الذروة حيث يبلغ البحث الى أقصى مداه الفكري والفلسفي. انه يعلن ويثبّت فعل الزمن بالقصيدة في هذا العنوان المميز: "خروج القصيدة من الواحدية الى التمامية". يكتب فيه سفر خروج فعلي من حال الى اخرى، ومن واقع الى آخر، ومن زمن الى زمن مغاير.
يبدأ بنقد الدرس التاريخي للشعر الحديث مظهراً مكمن الخلل فيه، إذ يرى داغر ضرورة "العودة الى وقائع الشعر والبحث عما يوجبها، ولا سيما في تغيراتها، وهي تغيرات لا تقتصر- وان تتعين ظاهرياً ووقائعياً- على شؤون تقنية او عروضية او بنائية، اذ تعبّر عن اعتمالات أوسع منها، وفي حراك تاريخي عام. وهو الحراك الذي وضع الشعر، بعد طول احتكام الى مرجعيته المخصوصة، طوال قرون وقرون، في وضعية التغاير التي أوجبتها شروط المثاقفة الواجبة مع اوروبا الغازية والساحرة في آن".
لذا يرى داغر وجوب البحث عن "تاريخية لتجديد الشعر العربي تقع في اطار التثاقف، وهو ما تحاشاه كثير من النقاد مكتفين بملاحظة التغيرات الشكلية وحسب في بناء القصيدة العربية". يصرّ على الزامية العودة الى الوراء "تاريخياً لوضع الحداثة في مدى الحركة التي أوجدتها في اطار المثاقفة، وفي ضلوع الشعر في تعايش مع مرجعيتين: عربية وغربية".
من هنا، وانطلاقاً مما تقدّم يرصد شربل داغر من خلال درسه الشعر العربي الحديث خمسة أشكال لفعل الخروج الذي عاشه النص اثر فعل الزمن فيه، يمكن إيجازها بما سيأتي:
أولا: خروجٌ نحو تنويع القافية يمهّد لخروج الى موضوعات جديدة تبصرها العين في هذا الوجود وليس في الذاكرة والتقليد، مثل التحدث عن "التومبيل" او "التلغراف" او "المغنطيس".
ثانيا: خروج قوامه الابتعاد عن نظام "الواحدية التمامية" الذي ينفي التغير ويركن الى مثال واحد يتم التماهي معه، فيتحكم النظام السابق الجماعي بقصيدة الشاعر وبالحكم عليها. انه خروج يتخذ من الصلة بالزمن علاقة لازمة له، وتعبيراً متعدد الأوجه والتناولات عن الزمن وحمولاته وعن الانسان فيه.
ثالثا: خروجٌ نحو بناء مختلف للقصيدة العربية التي تخلّصت من شكلها القالَبي المحسوب، وفي بلوغها شكلاً متغيراً عند كل شاعر، بل في كل قصيدة. وفي ذلك إشارة واضحة الى أن عمل الشاعر بات واقعاً في الزمن، داخلاً في علاقة معه، لا يعود معها الشعر عملاً نَظمياً، بل نوعاً من الممارسة الوجودية، من العمل الموقعي الذي يطلب أثراً في الزمن، ومع الآخر.
رابعاً: خروجٌ مبني على اساس قاعدة مادية تطلقه وتتبناه، تتلقاه وتنشره. قاعدة تجعل المدون صنيعاً كتابياً، طباعياً. الأمر الذي يجعله بحاجة الى درس وفحص في حد ذاته، وينشأ عنه بالتالي حقلاً تداولياً جديداً. انه زمن خروج القصيدة من البلاط الى الكتاب وصفحات المجلات والجرائد. اذ تصبح العلاقة بين الشاعر والمتلقي انفرادية وغير احتفالية، تتوجّه اليه بالذات وهي لا تعرفه. انه الخروج من "جمالية السماع الى جمالية القراءة". انه زمن القراءة الفردية القابلة للتقدم والتراجع، للاستعادة كما للقطيعة. خرجت القصيدة في زمن الحداثة من القصر الى البيت، ومن لحظة الخطابة الى لحظة "الاستغراق". يقول داغر في هذا السياق: "بات القارئ شريكاً في القصيدة وأُفقا لها: شريكاً مسبقاً في الانتاج على أنه ايضاً أُفق مرتجى للقصيدة. هذا يعني أن القصيدة باتت محل إنتاج في التواسط الانساني والاجتماعي، في مبثوث المعنى كما في أفقه التاريخي أيضاً".
خامساً: خروجُ القصيدة من شروط المنافسة بين البلاطات والنقاد لكي تقيم في الشاعر نفسه، في ما يعرضه ويقدمّه لغيره، أي النقاد والقراء. هذا الخروج أوجد قصيدة، بل قصائد متغيرة، متخالفة، يصعب التفاضل الشديد او المحسوب بينها، وباتت القصيدة عالماً في حد ذاتها، كوناً مقيماً في بنيتها المتخيّلة، الامر الذي أخرجها من الواحدية، ومن التمامية كذلك، الى التباين والتكثر. هذا ما جعل القصيدة موصولة وقائمة على التغير الزمني، مما يظهر التحقق الأمثل لعلاقة مفتوحة ومطلوبة مع الزمن، بوصفه منبت التغير والحدوث والتجدّد والتفرّد أيضاً.
إن فعل الخروج المتتالي الذي يشير إليه داغر كانت له مفاعيل عدّة، أحاول حصرها بأربع نقاط:
أولاً: جعل القصيدة "موصولة وقائمة على التغير الزمني"، ليصبح بذلك تفرّد الشاعر وعبقريته ضرباً من "التحقق الأمثل لعلاقة مفتوحة ومطلوبة مع الزمن، بوصفه منبت التغير والحدوث والتجدد والتفرد بالتالي". يشير أيضاً الى أن هذه الصلة بالزمن تكفل القصيدة عن طريق جعل "الشاعر قواماً عليها، فتبتدئ القصيدة من ملكته، من تدبيراته، من كون النص صنيعاً بين يديه. وهو بقدر ما يعين الخروج من "واحدية تمامية"، يعين "فردانية قيد التبلور".
ثانياً: ابتداء القصيدة من الشاعر، اذ أصبحت تلعب دور القماشة للمصور، انها نوع من السطح المادي وليس فقط مجرّد حامل للتعبير. "أي ان الشاعر لا يطلبها لقول ما يريد، وانما بات يعرف كذلك أنها حاصل يتدبره بالعمل، أي بما يصرفه للألفاظ والسطور والمقاطع من معالجات وحلول ومصائر".
ثالثاً: الاقتراب من "تعطيل قدرة الإفصاح في اللغة، وتبلبل صوابية المعنى"، هذه الصوابية التي كانت تدعيها القصيدة القديمة. بمعنى آخر، لم يعد الشاعر مهتماً بالموافقة بين اللفظ وخارجه، بين اللغة والواقع، انما بات ينشغل بما تقوله الالفاظ أبعد من مراميها الواعية او المقصودة. انه يعمل في اطار تخيّل "مفتوح على التكثير، وعلى تسرّب المعنى، لا على تركّزه".
رابعاً: ظهور اجتماعية أخرى للقصيدة الحديثة تبرز في التعليم والصحافة مثلاً، وتأسيس علاقات انطلاقاً من مواقع متغيرة ومتعددة الى حدّ التخالف. يعطي داغر أمثلة على ما بات يُطلب من القصيدة أن تؤدّي مهاماً مختلفة، فتخرج الى العلن في أصوات متنوعة.
أكاديمية وباحثة لبنانية