وضعت البيانو على طرف الخشبة. في الظل. تركت أناملها جانباً واستعارت أناملهن، أصواتهن، موسيقى أفكارهن التي يهتز لها جسده أمام شاشة تحاول أن تهدّئ وقع تلك الأفكار، فتزداد الأمور كثافة. هذا ما استطعنا استنباطه من بعض مشاهد عرض «قصور النساء» للمؤلفة الموسيقية جويل خوري يرافقها رقصاً ألكسندر بوليكيفيتش، وشاغيك أرزومانيان في تصميم وإخراج الفيديو اللخاص بالمشروع.
يطلق عمل جويل صرخة أو صرخات لمجموعة من النساء تركن أثراً في هذا العالم وهنا نتحدث عن أديبات وشاعرات كمارغريت دوراس وفيرجينيا وولف وسيلفيا بلاث ونادية تويني وصباح زوين، وتشكيليات كفريدا كالو وكاميّ كلوديل، ومطربات ونجمات في عالم الغناء والرقص كأم كلثوم وفاتن حمامة ومارلين مونرو وتحية كاريوكا ونينا سيمون، وباربرا وبيلي هوليداي ومارلين وديتريش وسامية جمال واديث بياف ورومي شنايدر، أو نساء كانت لهن إنجازات ككليوباترا واميليا ايرهاردت، كلهن صرخن الصرخة ذاتها.
القاسم المشترك بين هؤلاء النسوة هو معاناتهن: معظمهن عانى حالات نفسية أو ظروفاً صعبة، وكان السبيل الوحيد لهن للتعامل مع المشكلة هو التنّحي عن هذا العالم: أصبحن كأنهن يسكنّ على الحافة، على هامش هذا الكون. إبداعهن، أكان عملاً فنياً، أدبياً، أم إنجازاً اجتماعياً، هو طريقتهن الوحيدة للتنفس. هذا الإبداع هو القصر الذي بنته كل امرأة على آخر سنتمتر من الأرض. كنّ كلما انتهين من عمل فني أو أدبي، كأنهن فقدن سبيلهن الى التنفس، فيصبح مصيرهن الجنون أو الإحباط الى أن يأتي العمل الفني أو الأدبي المقبل، فيعدن الى قصورهن.
لبناء «قصور النساء»، أجرت جويل بحثاً معمقاً حول تفاصيل حيوات هؤلاء النساء، وغاصت في كتاباتهن أو أعمالهن الفنية أو إنجازاتهن. لم يكن كافياً أن تؤلف لحناً موسيقياً: أرادت ما هو أبعد من ذلك، فكتبت نصاً أرفقته بشريط صوتي Bande Sonore. ومن الشريط الصوتي، قامت شاغيك أرزومانيان بإعداد شريط الفيديو آرت الذي يمتد طوال العرض واستحضر ألكسندر بوليكيفيتش حساسية جسده الراقص لكل ما هو أنثوي.
لدى حضورنا بعض مشاهد العرض خلال البروفة، يتراءى لنا أنّ جويل عملت على بناء تكثيفي لعرضها بحيث لا يبقى من قصص تلك النساء الا بعض الإيحاءات والتفاصيل التجريدية. خلال ادارتها للعرض، فككت النص الذي تميّز بشاعرية تراجيدية تذكرنا بنمط كتابة «هيروشيما يا حبي» لدوراس. أصرت على البحث عن تسجيلات حقيقية لهؤلاء النساء وبنت حواراً بينهن: حوار لا يُقصد منه بناء فهم سياقٍ ما بقدر ما يُقصد منه نقل أحاسيس وانفعالات معينة للمُشاهد. النص بالنسبة إلى جويل هو أيضاً موسيقى. لذا، اختلطت الشذرات التي كتبتها بالتسجيلات الصوتية التي كانت بلغات متعددة، ما أضفى نغماً على الكلمات.
شاعرية تراجيدية تذكرنا بـ «هيروشيما يا حبي» لدوراس

حين تنقر أنامل جويل مفاتيح البيانو، كان ألكسندر بوليكيفيتش ينقر الهواء بخصره: رقص شرقي على أنغام البيانو. أراد ألكسندر إخراج الرقص الشرقي من إطاره التقليدي. هذا الإطار الذي يضيق يوماً بعد يوم. كلما ضاق العالم بأحلام النساء، ضاقت المساحات بالرقص البلدي: هذا الرقص الذي يتعرض للتهميش كما عُرٍّضت نساءات جويل بشكل أو بآخر للتهميش.
تواطأ ألكسندر مع هؤلاء النساء اللواتي شاركن جويل نقر مفاتيح البيانو. كانت الأنغام مصحوبة بجرعات من الألم، باستثناء اللحظة التي كان فيها ألكسندر، يدير ظهره للجمهور، ويمرر يديه كأنه يحضن طفلاً ويهدهده كي ينام. ما تلبث أن تتشنج الحركة وتتحول، اذ لطالما عانت هؤلاء النساء من علاقة شائكة مع أمهاتهن. هنا يبدو الرقص الشرقي النمط الراقص الأكثر ملاءمة لعلاقة شائكة تجمع أم بابنتها: أوليس الرقص الشرقي هو ما يُعرف أيضاً برقصة الحوض؟ هذا الحوض ذاته الذي حوى يوماً ما جنيناً تحوّل الى فتاة اسمها أناييس نن أو نادية جمال؟
حين كان ألكسندر يهزّ خصره على أنغام البيانو وعلى إيقاع الشريط الصوتي، كان يذهب الى نقيض مبتغى الرقص الشرقي المتعارف عليه اجتماعياً، ألا وهو إظهار مفاتن المرأة: خصره اهتز لإظهار منابت ألم المرأة. علاقتها الشائكة مع الأم. الأب المسلوب. الأخ الذي يحظى بكل شيء. تمايلت يدا الكسندر لتبحثا عن الحب، وتحصدا الهواء تماماً كما بحثت هؤلاء النسوة عن الحب بكل أشكاله ولم يجدنه. لم يكن في حركته أحياناً متناغماً مع نقرات البيانو، كان كأنه تلك المرأة التي تحاول الخروج من دائرة الألم. يصاحبه شريط الفيديو عارضاً هؤلاء النساء كما لو أنهن جزء من لوحات متعددة ترسمها شاغيك بالفيديو. هي لوحات متحركة تجريدية تعيدنا في لحظات معينة الى التيار السوريالي في الفن التشكيلي.
إذاً، هل ستتمكن جويل خوري اليوم من نقل كل تلك المكنونات الى المشاهد؟ وهل سيكون التفاعل بين ترويكا البيانو (العزف المباشر)، الفيديو والرقص تفاعلاً متقناً وغير مجاني؟ علينا أن ننتظر العرض، لنسمع، نرى ونحدّق ملياً في الهواء الذي يُنقر.

20:30 مساء اليوم وغداً ــــ «المعهد الفرنسي في بيروت» (طريق الشام _ بيروت) ـــ للاستعلام: 03/812959