كما في كل دورة من «مهرجان السينما الأوروبية» الذي اختتمت دورته الـ 22 أول من أمس في «متروبوليس أمبير صوفيل»، عرضت أفلام طلابية قصيرة من مختلف الجامعات اللبنانية. ما الجديد الذي قد يلحظه المشاهد إثر تتبع هذه الأفلام التي قد تعكس توجهات هؤلاء السينمائيين اللبنانيين الشباب وبشكل أوسع أيضاً الجامعات الآتين منها؟ المؤكد أنّ هناك تطوراً ملحوظاً في الصورة على الصعيد التقني مقارنة بالسنوات الفائتة، فأغلب هذه الأفلام مشغولة نسبياً بشكل احترافي من حيث الصورة والإضاءة والصوت. أمر يعود بالطبع إلى تطور تقنيات الديجيتال وسهولة الاستحصال عليها بعدما كانت محصورة بما تقدمه بعض الجامعات الخاصة دون غيرها. لكن الصورة النظيفة أو اللماعة لا تعكس عيناً سينمائية جميلة من دون رؤية سينمائية شاملة تسيرها. العديد من الأفلام المعروضة يدور حول فلك التواصل، كما «بيمو» للجين جيبوري من جامعة AUST حول ثنائي يدخل كل في عالمه الخاص وتزداد الهوة بينهما، أو «أضواء الديسكو» لألينور بجاني من «الجامعة الأنطونية» عن فتاة قلقة وانعزالية، أو «من رحم السماء» لجورج هزيم من الجامعة اللبنانية حول علاقة غامضة بين فتاتين، إحداهما تعاني من الاكتئاب المرضي، والثانية تهتم بها. يتمتع هذا الشريط بجمالية سينمائية خاصة، لكن المشكلة أنّ بعض هذه الأفلام لا تنجح في إيصال فكرتها للمشاهد بخاصة «أضواء الديسكو»، أو تبدو تائهة أحياناً في التواصل اللغوي كما في «بيمو» حيث اللغة الإنكليزية المستخدمة في الحوار تبدو مستعارة من مخيلة أو كليشيه فيلم آخر، ولا تنجح في فرض خصوصيتها. الملاحظ أيضاً أنّ العديد من الأفلام تتطرق إلى ثيمات اجتماعية أو شخصيات قلما تناولتها السينما اللبنانية، كما جحيم المرأة الخمسينية العزباء التي تعيش مع أمها في «سكون» لكلارا قصيفي من «جامعة القديس يوسف» أو شخصية الطبيية الشرعية التي تشرح الجثث في «الخدار (مورفيه )» لروبين النشار من «جامعة الروح القدس الكسليك».
مقاربة ثيمات اجتماعية أو شخصيات قلما تناولتها السينما اللبنانية

أما الفيلم الفائز «تحت الأثواب» لميشال زرازير من جامعة الـ «ألبا»، فهو يشكل تجربة استثنائية من حيث موضوعه وأسلوبه وتكامل عناصره والطرح الجريء الذي يتبناه. في فيلمه القصير، يصور المخرج الشاب حياة الراهبات في الكنيسة بكل تفاصيلها الطريفة التي ينجح في التقاطها، بحيث يخرج شخصية الراهبة من جمودها المكرس ليبث فيها الحياة. الطرافة الذكية والنقد الساخر من دون أن يكون جارحاً، يسيّران الشريط الذي يبدأ بمشهد الراهبات اللواتي يلعبن الغميضة في انتظار قدوم المونسنيور. يصل الأخير على أنغام موسيقى «هالشاب الأسمراني» لنجوى كرم التي تصدح من سيارته، من ثم نرى يده وحدها تخرج من السيارة وتتناوب الراهبات على تقبيلها في مشهد يرمز إلى السلطة الأبوية. هذه السلطة ستنتفض الراهبات ضدها كما نرى لاحقاً رداً على قرار المونسنيور ببيع الدير والأراضي المحيطة به وتشريدهن. تأخذ الراهبات المونسنيور في جولة لمباركة الحقل، والتناوب على ركوب المرجوحة التي يصدف أنها تجاور حقلاً للألغام يدخله المونسنيور على غفلة مأخوذاً بالمناظر الطبيعية، فتعلق رجله بلغم. هنا تعم الهستيريا، وتجد الراهبات أنفسهن متنازعات بين إنقاذ المونسنيور والاقتصاص منه وتلقينه درساً لقراره ببيع الكنيسة بعد انقلاب الأدوار ووجودهن في موقع السلطة. لاحقاً، نشهد محاولاتهن الطريفة لحل الأزمة عبر إرسال الراهبة المتقدمة في السن الخبيرة في تفكيك الألغام أو إعطائه حبة «فونلاكس» مهدئة. يتضح لاحقاً أنّ الفكرة كارثية، إذ يوشك المونسنيور على السقوط من النعاس، فيما الراهبات يصلين حين تنفد كل الوسائل. أما المونسنيور المرعوب، فيصرخ «هلق وقت الصلاة؟». وبين العطسة أو حاجة المونسنيور للتبول... تفاصيل اعتيادية تتحول إلى مصيرية في عين المخرج الساخرة، والثاقبة التي تعري المواقف كما الشخصيات. من جهة أخرى، فاللغة السينمائية أيضاً تواكب انسيابية السيناريو والحوار. الكاميرا تتابع تحركات الشخصيات، وتدخلنا في جلدها، معبرة عن حالة الهستيريا التي تسيطر عليها، وكل لقطة هي مهندسة بالأسلوب الذكي نفسه والرمزي أحياناً لتضيف إلى سخرية الحوار. لكن الأهم أنّ النقد الساخر يستخرجه المخرج من قلب الشخصيات والأحداث، ولا يأتي بمثابة فرض أو حكم عليها. عفوية الحوار اللماح والتمثيل المتجانس في الفيلم يضيفان إلى جمالية الشريط . «تحت الأثواب» فيلم جريء واستثنائي، بخاصة أنه مشروع تخرج وتجربة أولى بالنسبة إلى المخرج الشاب، وهو يقدم لنا مثالاً كيف يمكن اكتشاف مساحات سينمائية جديدة. أما الفيلم الثاني الفائز في المهرجان، فهو «إعادة الاتصال» للمخرج رودي دوميت من «جامعة الكفاءات». عبر مخيلته الساخرة والخاصة، يصوّر المخرج عالمنا اليوم الذي كثرت فيه وسائل التواصل وفقد التواصل فعلياً. بطله موصول بحبل متدلٍّ من الأعلى كأنما يشكل وهم العالم الافتراضي الذي يعيش فيه محاطاً بكل أجهزة التواصل كما الهاتف والمحمول والمنبه الذي ينظم بعالمه ويتحكم به. الفيلم صامت باستثناء جملة واحدة تتكرر إثر لقاء البطل بصديقته: «بعتلك مسج ليه ما رديت؟» التي تعيدها على نحو أوتوماتيكي، أو حين نراه في مشهد آخر يصور بطريقة ساخرة انعدام التواصل حين يقف البطل جامداً مربوطاً بحبله، في حين تظهر امرأة منحنية على السرير، تتحرك إلى الأمام والوراء، في ما يفترض أنه يمثل العلاقة الجنسية التي تحدث. لكن تعابير المرأة كما يصورها المخرج منهكة كمن يقوم بتمرين رياضي ممل أو يمسح الأرض ولا اتصال جسدياً أو عاطفياً بين الاثنين. حتى عندما يعود البطل إلى الطبيعة، يجد النباتات موصولة بحبال تحركها، كما أوتار البيانو، كلما لمسها تصدر صوتاً. يختار البطل في النهاية التحرّر من الحبل الذي يسيره وتسلق الحبل الذي سيأخذه إلى قائد هذه الاوركسترا أو الإله، أو ربما المايتريكس. ببساطته وفرادته معاً، ولقطاته القصيرة، لكن المختارة بعناية، نجح الفيلم في فرض عالمه الخاص على المشاهد.