المعرض الاستعادي (أو شبه الاستعادي) لميشال بصبوص (1921 – 1981) الذي نظتمه «غاليري أجيال» بالتعاون مع نجل الفنان أناشار بصبوص، وافتُتح منذ أيام في «مركز بيروت للمعارض»، هو استعادة لتجربة النحّات اللبناني الرائد، واستعادة لزمن هذه التجربة أيضاً. ولعلّ وضع المقال الذي نشره الشاعر صلاح ستيتية عن أحد معارضه المبكرة في «لوريان لوجور» في الكتاب الذي صدر بمناسبة المعرض، أشبه بإعادة تقديم هذه التجربة بمفعول رجعي من وجهة النظر تلك، التي يمكن عقد صلات قوية بينها وبين ما كان يحدث في لبنان من ريادات ومجازفات في الشعر والصحافة والمسرح والغناء، وفي تلك الأسئلة والمناخات المنفتحة التي صنعت العصر الذهبي لبيروت كمختبر طليعي للحداثة.
هكذا، يصبح التجوال في المعرض تجوالاً بين أعمال صنعت انطباعاتها في زمن إنجازها، ولا تزال تبث تلك الذبذبات والإشارات التي تشير إلى موهبة صاحبها، وبراعته في مقاربة فن المنحوتة التقليدية التي تستثمر الجسم البشري وممكناته التشريحية والشكلانية والوجدانية، وهو ما نراه في عدد قليل من المعروضات، بينما تبدو موهبته الأكبر في التكوينات التجريدية التي يمكن أن تحضر فيها حركة أو التواء أو انحناءة تذكّر بالجسم، ولكن قوة التجريد هي التي تواجه المتلقي وتُدهشه بقوة التجريب الذي تحتويه، وهي قوة تتضاعف مقارنةً بالزمن الذي صُنعت فيه هذه الأعمال. التقدير الذي حظي به بصبوص موجود في هذه الانزياحات التجريدية أولاً، وفي اشتغاله المتنوع على خشونة الملمس في السطوح الخارجية للمنحوتة، وقد حصل جزءٌ كبير من ذلك بتأثير مباشر من دراسته العليا في باريس، ومن تتلمذه في مشغل النحات الروسي أوسيب زاكين (1890 – 1967).
لقد اشتغل ميشال بصبوص على الجسم الإنساني أولاً، وعلى الأشكال والمواد الطبيعية التي رافقته في نشأته الريفية في قريته راشانا. كان تأثير معلمه الروسي واضحاً في أسلبة التفاصيل الجسدية، مع طموحات ذاتية في الإفلات من الأنماط والقياسات المنطقية.
تأثيرات واضحة لمعلمه
الروسي أوسيب زادكين في أسلبة التفاصيل الجسدية


اشتغل بصبوص على الحجر والغرانيت والرخام والبازلت والبرونز والخشب والألمنيوم والحجر الكلسي، ومع تطور التقنيات والأدوات، تخلى عن الإزميل اليدوي، وصار «الصاروخ» الكهربائي بديسكاته القاطعة يساعده في العثور سريعاً على الأشكال التي يتخيلها في المادة قبل العمل عليها. كان بصبوص يعمل من دون إعداد مسبق وبطريقة أشبه بتلقي نوع من الإلهام الغامض المحفوف بطقوسية عاطفية ووجدانية عميقة، وكان يجازف بمداهمة المادة بتلقائية تقترب من الارتجال الكامل، قبل أن تبدأ التطورات الصغيرة بقيادة العمل إلى نهايته. ولعل التلقائية هي التي أخذته بسرعة إلى التجريد الذي لا تتقدس فيه الأشكال والتنظيرات حولها. تجريبية بصبوص كانت تسعى إلى إلغاء أي نظامية، وإغفال أي خبرة، وهو ما يفسر إهمال بصبوص للنسب المعروفة لشكل الجسد البشري أولاً، ثم التحرر من أي شروط مسبقة مع الأعمال التجريدية التي صنعت هويته وحساسيته وتجربته كلها تقريباً. في التجريد، يظهر احترامه للمادة بطريقة عفوية. ننتبه مثلاً للعروق في قلب منحوتة خشبية، وللذرات العنقودية في جوف واحدة أخرى منجزة بالغرانيت أو الرخام، وللإنسيابية المخادعة والصقيلة في منحوتة ثالثة مشغولة من البرونز. هذه الخطوط والتصدعات المينيمالية في المادة الخام هي التي قادته لاحقاً لكي يعثر على فنّه الشخصي، الذي سيخلّده في تقنية التزييح أو التشهير الهندسي الحر الذي كان يشتغل بها على الملمس الخارجي للمنحوتة، وعلى إظهار نسيجها ولحمها الداخلي. هكذا، بدأت تظهر «الرادياتيرات» والأشكال الأوكورديونية الميكروية، وبدأت تظهر التشققات والأخاديد والخدوش الدقيقة في أغلب أعماله التي أنجزها في النصف الثاني من حياته القصيرة، وهي التي استقبلت بحفاوة بالغة محلياً وخارجياً، وخصوصاً في المعارض التي اقيمت له في طوكيو ولندن والولايات المتحدة الأميركية في سبعينات القرن، حيث وجدت أعماله طريقها إلى عدد من متاحف الفن الحديث في العالم. هناك عدد من هذه الأعمال في المعرض، إضافةً إلى مفاجأة أخرى تتمثل في عرض لوحات واسكتشات منجزة بالفحم، وبينها بورتريهات ذاتية تزيد من حضور الفنان في أوتو بورتريهات نحتية أخرى.
معرض ميشال بصبوص هو هدية مرسلة من الماضي القريب، ولكن الكثير من أعماله لا يزال راهناً، وبعضه أمامنا في المستقبل أيضاً. إنه اسم مصنوع من مادة النحت في ذاكرتنا، ومن ارتباط الاسم بأخويه الأصغرين ألفرد ويوسف، وبقريتهم راشانا التي صارت متحفاً في الهواء الطلق. يتلقى زائر المعرض حمولة الاسم دفعة واحدة أولاً، قبل أن يتلقاها على دفعات في الأعمال التي اختيرت من رصيد أضخم بكثير، وجرى توزيعها في سينوغرافيا رشيقة تجعل المنحوتات كأنما هي أخف وأقل عدداً. إنها قليلة فعلاً، ولكن يبدو أن المنظمين تعمّدوا ذلك، كي تتنفس الأعمال وتأخذ حصّتها من المساحة والفراغ المتوافرين في مكان العرض.

* «ميشال بصبوص: معرض استعادي»: حتى 26 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «مركز بيروت للمعارض» (بيال _ بيروت). للاستعلام: 01/980650





مهرجانات راشانا

لم يكن ميشال بصبوص نحاتاً فقط. صحيح أن النحت هو الذي صنع مكانته في المحترف اللبناني والعربي، ولكن علينا ألا ننسى مساهمته في مشروع الحداثة في لبنان. نتذكر انخراطه في الحركة الثقافية والفنية المزدهرة في تلك السنوات الذهبية، حيث كان عضواً مؤسساً لـ «حلقة المسرح اللبناني» مع الثنائي أنطوان ولطيفة ملتقى، وأطلق «مهرجانات راشانا» تيمناً بـ «مهرجانات بعلبك» التي كانت قد انطلقت للتوّ، وقُدمت فيها عروض مسرحية مميزة، إضافةً إلى ورش وملتقيات النحت التي ملأت ساحات القرية ومداخلها وجوارها القريب بمئات المنحوتات التي شكلت تجربة فريدة أنجز السينمائي الراحل كريستيان غازي أول أفلامه الوثائقية عنها عام 1961.