بعد ست سنوات على رحيله، وقرابة 60 سنة على كتابته لها، ها هي رائعة جنكيز إيتماتوف «جميلة» تعود للصدور بالعربيّة (ترجمة هفال يوسف ـ دار الساقي). «جميلة» التي وصفها الشاعر الفرنسي لوي أرغون حين نقلها إلى الفرنسيّة بأنّها «أجمل قصّة حبّ في العالم»، تعتبر اليوم من كلاسيكيات الرواية العالمية يحكي فيها الروائي القرغيزي (1928- 2008) عن الحبّ بأبهى صوره. إنّها قصّة حب تدور في قرية صغيرة في الجمهوريّة القرغيزية أثناء خضوعها للحكم السوفياتي.
بينما تستعر الحرب على الجبهة، وتفرغ القرى من رجالها، تجد «جميلة» نفسها وحيدةً مع عائلة زوجها «صادق» الذي أرسل للقتال. تعيش الانتظار البائس لرسائل زوج يمتنع فيها عن ذكر زوجته سوى بعبارة جافّة في الختام «كما وأبعث بتحياتي إلى زوجتي جميلة»، فالحديث إلى الزوجة بعرف القرية أمر معيب كما يقول «سعيد» الشقيق الأصغر لصادق الذي اختاره إيتماتوف ليكون الراوي والشاهد على ما يحدث.
لا يخفي سعيد انجذابه لزوجة شقيقه الأكبر. يرى فيها نموذجاً مختلفاً عمّا هي عليه نساء القريّة، «فقد كانت شديدة المرح كطفل صغير». لكنّها الحرب الحاضرة بخفّة في خلفيّة الحكاية، ترخي بظلالها على تفاصيل الحياة.
رائعة جنكيز
إيتماتوف انتقلت أخيراً إلى لغة الضاد

تجد «جميلة» نفسها مضطرة للعمل في نقل أكياس القمح من القرية إلى محطة القطار عوضاً عن زوجها الغائب، ويتاح لسعيد أن يلعب دور المرافق والحارس الشخصي لزوجة أخيه، ما يزيد أواصر العلاقة بينهما. وكحال الحروب في كلّ الأمكنة والأزمنة، تتخلّى الحرب عمّن لم يمت من مقاتليها وأصيب بإعاقة تمنعه من الاستمرار في القتال. وبذلك يعود إلى القرية «دانيار» المقاتل الذي أصيب في ساقه، صاحب الشخصيّة الانعزالية والانطوائيّة التي تجعله كائناً غير ذي أهميّة فـ «حين لا يتميّز المرء بأي شيء، فإنّ الناس ينسونه شيئاً فشيئاً». تجد جميلة نفسها واقعة في حبّ دانيار الذي أخفى حبّه لها لبعض الوقت، وتستيقظ رغبة سعيد المقموعة في الرسم وهو يشهد بدايات قصة حب صادق يجمع زوجة أخيه بدانيار وتتحرّك الرغبة لديه لرسمهما معاً دونما شعور بالخيانة تجاه شقيقه: «من خنت؟ العائلة؟ القبيلة؟ لكنني لم أخن الحقيقة. حقيقة الحياة. حقيقة هذين الانسانين». جميلة تجرأت على الاعتراف أنّها لم تحبّ زوجها يوماً، وأنّها تعلم أنّه لم يحبّها. لكنّها اليوم تجد نفسها مغرمة بهذا المقاتل العائد من الجبهة مثقلاً بإعاقته وفقره وتشرده. وتختار الرحيل معه من دون أن تعلم أنّها خلّفت وراءها صبيّاً صغيراً كان شاهداً على قصتها، وواقعاً في حبها طيلة الوقت. وقد اتخذ عهداً على نفسه أن يستمر برسمها مع حبيبها. هو سعيد الذي يعترف لنفسه بعد فراقه لجميلة ودانيار: «لقد فارقت أعزّ الناس وأقربهم إليّ. ولم أدرك إلّا الآن، وأنا ممدّد على الأرض، أنني إنّما أحببت جميلة. نعم، كان هذا حبي الأوّل، وكان حباً طفولياً».
إنّه الحب. الثيمة الأزليّة والخالدة في كل الآداب والفنون. يرويه صاحب «النطع» عبر حكاية بسيطة بعيدة من التكلّف. يخلق منه رواية خالدة لم تتجاوز79 صفحة لكنّها استطاعت أن تكون شاهدة على مرحلة من تاريخ الإنسانية، وتنسج قصة حب يمكن أن تقرأ بالمتعة ذاتها لأجيال متلاحقة.