الجزائر | بعد «مسخرة» (23/12/2008) الذي قارب الجزائر بعد العشرية السوداء بعيداً من النبرة النضالية والشعارات، يعود السينمائي الياس سالم (1973) بفيلمه الروائي الثاني «الوهراني» الذي عرض أخيراً في بلد المليون ونصف مليون شهيد، على أن يطرح في الصالات الفرنسية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. صورة متقنة، وعناية ومذهلة بالتفاصيل، وسيناريو مستفزّ يسير في نسق تصاعدي ليحيلك على أسئلة كثيرة. هذا العمل لا يؤرخ ولا يوثق ولا يقدم أحكاماً جاهزة.
إنّه يقرأ الواقع من خلال العلاقات الإنسانية المتشابكة ويطرح القضايا الكثيرة في جزائر اليوم من دون أخذ موقف من هذه أو تلك. لم يشأ الكاتب والمخرج والممثل الجزائري وضع فيلمه في خانة معينة، بل اكتفى بوصف العمل بأنّه ذو صبغة سياسية وتاريخية.
إنها قصة جعفر الوهراني الذي جسد دوره إلياس سالم الذي يطلّ في صورة البطل الثوري الذي يحتفل به الجميع ويبجله الصغير قبل الكبير. إنه رمز الاستقلال الذي ننعم به. لكن فرحة الاستقلال ضاعت حين يكتشف أن حبيبته وزوجته ياسمين تعرّضت للاغتصاب انتقاماً من صعوده الجبل. لا تتوقف المعاناة هنا، بل سيضطر «جعفر» لتربية ثمرة هذا الاغتصاب: الطفل بشير سيكبر ناقماً على والد لا يعترف به، وعلى مجتمع لا يمت له بصلة، بل ينعته بـ «الفرنسي» نظراً إلى جماله الأوروبي. بشير الذي يمكن أن يسقط على الواقع الجزائري، قد يكون مثلاً التركة التي ورثها الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، وقد وجد نفسه مجبراً على التعايش معها. إنها حال جعفر الذي يتصالح مع بشير في النهاية وسط المعاناة النفسية التي كان يكابدها. وفِّق إلياس سالم إلى حد كبير في تقديم صورة الوهراني الذي بدا مختلفاً عما قدمه سابقاً في «مسخرة». جعفر المجاهد ضحّى بحياته لأجل الوطن، فعاد بعد الاستقلال ليجد مجتمعاً مختلفاً: ينكب الأصدقاء على تقاسم «كعكة الاستقلال»، فحميد (صديق جعفر الذي جسده الممثل خالد بن عيسى) المتزوج من أميركية، يعيش حياة غربية لا يعترف بأحد إلا بمن صنعوا ثورة الجزائر وإن كانوا فاسدين! وحدهم المنضوون تحت مظلة «جبهة التحرير الوطني» لهم الحق في اقتسام ثروات الجزائر!
وسط ذهول المشاهدين
تتصاعد موسيقى أمازيغ كاتب

الفيلم في مضمونه المثير للجدل، قدم رؤية مختلفة بذكاء لافت. حاول إلياس سالم السيناريست هذه المرة بعث رسائل مشفرة تتقاطع حول علاقات إنسانية من دون أن تقدم صورة سيئة عن أبطالها. للمرة الأولى، تبتعد الأفلام الجزائرية من تقديم الصورة المثالية للثورة وأبطالها. قارب «الوهراني» العديد من المشاكل التي تتخبط فيها جزائر اليوم: سؤال الهوية واللغة، التعريب، الأمازيغ، الفساد و«الشرعية الثورة» وموقع المفكر وكل جزائري من كل هذه القضايا في خلطة هي مزيج بين الفكاهة والجدية. نرى مثلاً مشهداً تهكمياً كوميدياً حيث يظهر الممثل مراد خان وهو يحاول تعريب بعض الكلمات الفرنسية التي تستعمل في الإدارات الرسمية. ويطرق أيضاً باب الهوية في مشهد آخر يجمع عدداً من أبطال الفيلم في رحلة عائلية في الغابة وهم يتناقشون حول الأصول الأمازيغية والعربية والفرنسية في الجزائر. كما قارب مسألة التربّح والانتفاع باسم الثورة وتقسيم الامتيازات عبر مشهد يبرز تضارب المصالح وتعلو فيه المصلحة الفردية. نرى ذلك عندما يتناقش حميد مع أحد الأصدقاء ويحاول أن يذكّره أنه على قاربه، فيختار الصديق السباحة حتى يصل إلى الشاطئ، رافضاً منّة حميد. وأيضاً، نرى البطش الأمني في مرحلة انتقالية عاشتها جزائر الاستقلال في مشهد ملاحقة أحد الصحافيين وتعذيبه بتهمة البحث عن الحقيقة، والنبش في ماضي ابن جعفر بالتبني. وسط ذهول المشاهدين، تتصاعد موسيقى الفنان المعروف أمازيغ كاتب. علماً أنّ الشريط أخذنا مع تواتر الأحداث إلى موسيقى متنوعة عكست ثراء المخزون الموسيقي الجزائري.
الفيلم جاء جريئاً بكل ما حمله من تفاصيل عكست حقيقة ما تمر به الجزائر اليوم من نتائج وخيمة أفرزتها حقبة «الحزب الواحد». يذهب المخرج بذكاء إلى تساؤلات كثيرة في سيرورة متصاعدة وصولاً إلى المشهد ما قبل الأخير حين يطلب حميد من رفيقه جعفر قليلاً من الماء. حين لم يجد قطرة ماء في الحنفية، يرد بسخرية: هل جاهدنا حتى لا نجد ماء نشربه بعد الاستقلال؟



القبض على الذاكرة


فيلم «الوهراني» صوّر بالكامل في وهران ومحيطها عام 2013. يأخذنا الشريط إلى السنوات الأولى من الاستقلال بفضل ديكوراته وأزيائه المشغولة باتقان لتعكس روح تلك الحقبة الزمنية. كذلك الأمر بالنسبة إلى المشاهد التي تصوّر نهاية الخمسينيات ومنتصف الثمانينيات. إلا أنّ النقد الذي وجّه إليه هو اللهجة البعيدة بعض الشيء من لهجة أهل وهران. وكان جواب المخرج على هذا التفصيل أّنّه كتب النصّ وفي باله ممثلون محددون مسبقاً لتأدية بطولته. وأشار الياس سالم إلى أنّه اختار الإضاءة على السنوات الأولى من الاستقلال لأنه باب لم يُطرق إلا نادراً في السينما الجزائرية، لا سيما أنّ هذه السنوات هي مفصلية في تشكيل «الهوية الوطنية». وتابع: «إنّه دور جيلنا في القبض على الذاكرة».