دمشق | وصل أمير كوستوريتسا إلى دمشق عام 2009 عن طريق بيروت. بعد منتصف الليل في مقهى «البرازيلي» الدمشقي، ساقنا النقاش حول فيلمه الشهير «تحت الأرض» إلى أزمة ما بعد اغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري بين سوريا ولبنان. السينمائي الصربي سأل ليجيب: «هل تظنّ أنّ الاغتيال وإثارة المشاكل بين الشعبين حدث من باب المصادفة؟ انظر إلى ما فعلوه في يوغوسلافيا، وستفهم كل شيء».
الرجل كان يتحدّث عن أصابع خارجيّة واضحة في بلده الذي لم يعد موجوداً. الصور والمعلومات الأخيرة عمّا يحصل للسوريين في لبنان، تؤكّد أنّ الأصابع الداخلية جاهزة كذلك. العنصريون مستعدون للانفلات دائماً، وخدمة أيّ مشروع ظلامي يُحضّر لهذه البقعة من العالم.
إعلامياً، كان كل شيء مهيّئاً لهذه الإنجازات التاريخية في الداخل اللبناني. نشرات أخبار تروّج للعنصرية باعتبارها رأياً لا يجوز منعه. تحقيقات تتعامل مع مجموعات وأسماء قميئة تحت ستار السبق الصحافي. صور تُنشَر وفيديوهات تُعرَض من دون ذرّة واحدة من التفكير. ساعات من الهواء تُفرد لمحللين وسياسيين، لا يكترثون لأيّ شرخ يشتغلون على تعميقه ليل نهار. هؤلاء «طيور الظلام» لم يتوانوا عن الربط بين ذبح الجندي اللبناني وبين السوريين في لبنان. وفق مبدأ كوستاريتسا نسأل: «هل كان هذا الربط من باب المصادفة؟ انظر إلى ما فعلوه في العراق وسوريا، وستفهم كل شيء». فنيّاً، لا يبدو المشهد أفضل حالاً.

نشرات أخبار
تروّج للعنصرية باعتبارها رأياً
ألم تلعب بعض برامج الكوميديا على الوتر السوري/ اللبناني بمنتهى البلادة والسطحية؟ ماذا عن عروض الشانسونييه التي لم تلقِ بالاً لأيّ اعتبار؟ ثمّة مواضيع لا تحتمل التهريج. هذا المزاح سمج للغاية.
على السوشال ميديا، نرى العجب. من الواضح أنّ بعضهم يعمل بشكل ممنهج لتأجيج الأمور، ولو استخدم صوراً لحادث سير مثلاً، على أنّها لاعتداء على شخص سوري. أحد الإنذارات المفترضة للسوريين القاطنين في منطقة برج حمود تحمل مفارقة مظلمة. لا، ليس الجزء الذي يربط بين رحيل السوريين وبين «التعاطف» مع شهداء الجيش اللبناني. هذا مرار آخر. إنّها الملاحظة التي ترجو من الأحزاب اللبنانيّة «كافّةً» عدم التدخل في الأحداث التي ستقع في حال عدم الالتزام بهذا «القرار». هللويا. إنّها ضربة قاضية للنظام الطائفي بكامله. لا محاصصة ولا اتفاق طائف بعد اليوم. العنصرية هزمت الحرب الأهلية ومخلّفاتها. أليست هذه الملاحظة «العلمانيّة» أهم من أيّ قانون انتخاب نسبي أو نشاط مدني؟ «الشباب» يجيبون في الإنذار نفسه: «قد أعذر من أنذر». عدم تشكيل حروف العبارة إجراء مخيف بحدّ ذاته.
على المقلب الآخر، لا يقلّ بعض السوريين عبقريةً. بعضهم يدعو النازحين السوريين بكلّ وضوح إلى الرد بالمثل. آخرون واثقون من انتهاء الحرب في بلادهم عاجلاً أم آجلاً. بعدها سيرجع الجيش السوري إلى لبنان لتعود الأمور إلى نصابها. هذا الإعجاز يلاقي آذاناً صاغية أيضاً. لم يلتفت هؤلاء إلى حقيقة كريهة. كثير ممّن نزح إلى لبنان اضطرّ لذلك، لأنّ أخوته في الوطن رفعوا إيجارات بيوتهم إلى أرقام فلكيّة. من يدعو السوريين للعودة لأنّ «الشعب السوري ما بينذل»، عليه أن يلتفت إلى من أذلّه في بلاده أولاً. الأداء الحكومي والإعلامي السوري كارثة مخجلة بحدّ ذاتها. كفى هبلاً وغباءً. العقلاء مطلوبون الآن في كل مكان. افتحوا لهم الهواء، وامنحوهم ما يكفي من ساعات البث من أجل التهدئة، تذكّروا مآسي الحرب الأهليّة، دعوا أجنداتكم السخيفة جانباً، والتفتوا لأبواب الجحيم التي ستُفتح على مصراعيها. السوريّون دفعوا ثمناً باهظاً جداً من الدماء والكرامة على مرّ السنوات الأخيرة، لا توصلوهم إلى مرحلة «لم يعد لدينا ما نخسره». نعم، ما يحدث ليس مصادفةً، سواءً فوق أو «تحت الأرض». من قال إنّ الديناصورات انقرضت تماماً؟ نحن «في انتظار البرابرة».