يوماً تلو الآخر، يثبت كبار السينمائيين خطأ النظريّة التي تقلّل من شأن العمل في التلفزيون لحساب الفن السابع. لا يبدو أنّهم يستخفّون بوحش الميديا القادر على هضم أيّ عدد من ساعات الفيديو، أو ينظرون باستخفاف إلى مشاهده المضطجع على أريكة منزليّة بعد يوم عمل شاق. ها هو لارس فون تراير (1956) يعلن في «مهرجان البندقية السينمائي» الذي اختُتم قبل أيام عن مسلسل تلفزيوني بعنوان «البيت الذي بناه جاك».
لا معلومات كثيرة عمّا يعمل عليه المعلّم الدنماركي كتابةً وإخراجاً، سوى أنّه «سيكون ناطقاً بالإنكليزية، مع طاقم فنيّ ضخم. لن يكون كأيّ شيء رأيتموه في السابق أو سترونه في المستقبل» وفق منتجه المتحمّس لويس فيست. التصوير سيبدأ عام 2016، ومن المتوقع أن يثير الكثير من الجدل كعادة مخرجه غريب الأطوار. هذا ليس الموعد الأوّل بين أحد مؤسسي تيار «دوغما 95» السينمائي وبين جمهور التلفزيون. في الدنمارك، شارك في إخراج سلسلة الأفلام التلفزيونيّة «دي. داغ» (2000 ـ 2001) عن أربعة أشخاص يخطّطون للسطو على بنك ليلة رأس السنة. كذلك، كتب لارس فون تراير وأخرج بعض حلقات المسلسل الدنماركي «المملكة» (1994 – 1997) عن مستشفى متطوّر يشهد حوادث خارقة للطبيعة. أطلق «غرفة الأستاذ» (1994)، وهو «توك شو» يجمع بين الحقيقة والخيال، إضافةً إلى مشاركة صغيرة في كتابة الكوميديا الشهيرة «مهرّج» (2005). المفارقة اللافتة أنّ تراير التلفزيوني ميّال إلى الكوميديا والحبكات الخفيفة، بعكس وجهه السينمائي الصادم في ثلاثيّاته المتعدّدة.

يحضّر سكورسيزي عملاً عن موسيقى نيويورك في السبعينيات


مارتن سكورسيزي (1942) بدوره، يستعدّ لمسلسل تشويق جديد بعنوان «آش كليف». العمل المأخوذ عن فيلمه الشهير «جزيرة شاتر»، يبحث في تاريخ مستشفى الأمراض العقلية قبل أن تطأ قدما «تيدي دانيالز» (ليوناردو دي كابريو) أرض الجزيرة المنعزلة. صاحب الرواية الأميركي دينيس ليهان يعمل على السيناريو مع توم برناردو، فيما سيتولّى سكورسيزي إخراج الحلقة الأولى أو الـ «بايلوت» بنفسه، والإشراف على الإنتاج تماماً كما فعل في «برودواك إمباير» (2010)، الذي قدّم فيه تيمته الأثيرة «العصابات والسياسة»، من خلال شخصية «نوكي تومبسون» (أدّاها ستيف بوسكيمي). في الوقت نفسه، يحضّر سكورسيزي فيلماً تلفزيونياً عن المشهد الموسيقي في نيويورك نهاية السبعينيات، مع نشأة البانك والديسكو. ميك جاغر مشارك في الإنتاج بطبيعة الحال. «مارتي» مرتبط بتاريخ تلفزيوني طويل من وثائقيات السير والموسيقى والأمكنة. صنع ساعات عن موضوعات وأسماء محبّبة مثل بوب ديلان و»رولينغ ستونز» وحتى تمثال الحريّة. هذا لا يمنع سكورسيزي من التحضير لفيلمه الجديد «الصمت»، عن كاهنين يسوعيين (ليام نيسون وأندرو غارفيلد) يواجهان العنف والاضطهاد في يابان القرن السابع عشر. أحاديث كثيرة عن كبار آخرين يستعدّون لتجريب كاميرات الديجتال والعروض الأولى على شبكات الكابل بدلاً من مهرجانات السينما. في مقدّمة هؤلاء، المعلّمان الأميركيان تيرانس مالك وبول توماس أندرسون. هذا يفرض سؤالاً كبيراً: لماذا التلفزيون الآن؟ النيوزلندية الحائزة سعفة «كان» جاين كامبيون أجابت عنه أثناء عملها على السلسلة التلفزيونية القصيرة «أعلى البحيرة» في العام الفائت. كامبيون تحدّثت عن «الحريّة في إنجاز عمل تلفزيوني عالي الجودة لجمهور فائق الذكاء»، مشيرةً إلى «الإيقاع السريع في العمل على تطوير الشخصيات الرئيسيّة والحبكات الثانويّة».
المال هدف دائم بطبيعة الحال، خصوصاً عندما يشارك المخرج في الإنتاج ودورة رأس المال مثل سكورسيزي. التوسّع في معالجة تيمات محبّبة وتجريب بصريّات وأساليب أخرى أحد الإغراءات أيضاً، بما يوفّره التلفزيون من مساحة وساعات بث، هنا نرى «تلفزيون المؤلف» عوضاً عن «سينما المؤلف»، شركات الإنتاج ومحطّات الكابل لا تمانع تلبية رغبات المخرج الفنيّة، طالما أنّه يلبّي رغباتها الماديّة... هذا أمر بديهي.