في «طقس القربان في الأديان الوضعية والسماوية» (المركز الثقافي العربي) يسعى الحسن حما إلى دراسة تطور شعائر القرابين وطقوسها لدى الحضارات الغابرة والديانات التوحيدية. تُعد هذه القضية من المسائل التي تهتم بها الأنتروبولوجيا الدينية وعلم الاجتماع الديني. عمل الباحث المغربي المختص في الفكر الإسلامي المعاصر على مستويين: البحث في طقس القربان ومقاربة بنيته وصيغ وجوده في الفكر الإنساني والديني، ومعرفة أشكال تحوله وتطوره وأبعاده في بعض النماذج من الديانات الوضعية والكتابية. استند حما إلى المنهجية التقدمية ـ التراجعية التي استمدها من المفكر الجزائري الراحل محمد أركون (1928ـ 2010) صاحب «نقد العقل الإسلامي».
منهجية هدف من خلالها إلى دراسة النصوص على نحو يمهد لدراسة الفكر الديني، مع مراعاة فترات التطور الإنساني فيها ثقافياً واقتصادياً وأدبياً. استهل مادته عبر مدخل مفاهيمي عرف فيه عن بعض المصطلحات المستخدمة المتعلقة ببحثه مثل: المقدس، الطقس، الرمز، القربان، النَّذْر، التضحية. استعان بمجموعة من المراجع المتنوعة، ما ساعده في الاقتراب من تعريفات دقيقة رغم تشابك المفاهيم وتداخلها.
يبدأ حما في طقوس القربان عند المصريين القدامى من دون أن يدعي معالجة كل مظاهر العبادة عندهم، نظراً إلى الحقب التاريخية التي يغطيها وقدم الفكر الديني في حضارتهم. لذا أتت دراسته لها بشكل عام بما يسمح بتكوين صورة حول طبيعة القرابين التي اهتم بها الفراعنة. كانت للقربان في حضارة الفراعنة أهمية كبيرة، إذ خصصت قرابين للموتى تدفن معهم يقدمها الملك شخصياً. من خلال هذه التقدمة التي رافقها الاحتفاء الطقسي الديني وتفتتح بالصلوات من أجل الموتى في الجبانات ومن أجل الآلهة في المعابد، اكتسب القربان رمزية ثنائية: إمداد الميت بالمؤن بما يضمن له البقاء، وتقديم الذبائح من الحيوانات التي تعتبر من أعداء الإله. ارتبط طقس القربان في الديانة الهندوسية بالإله «براهما». قدمت له القرابين وقدسته، باعتباره غير مستقل في ذاته، بل يحل في جميع مخلوقاته الطيب منها والخبيث، فيشاركها آلامها وآثامها. تناول الكتاب المقدس للهندوسية _ كما يوضح الكاتب_ القرابين ببعد فلسفي روحي؛ فالأعمال التي يؤديها الفرد ما هي إلاّ قرابين للكائن الأعظم، وينبغي النظر إليها على أنها خدمة إلهية.
قبل أن يضعنا حما في الإطار العام لقرابين العرب في الجاهلية، يلقي الضوء على معتقداتهم الدينية. انتشرت عندهم عبادة الأصنام، وكان لكل قبيلة صنمها الخاص من بين الأصنام الكبرى، من ضمنها آلهة إناث كـ «اللات» لقبيلة ثقيف في الطائف، و«العزى» لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم، و«مناة» للأوس والخزرج وغسان، و«هبل» أعظم الأصنام وكان على ظهر الكعبة. آمن العرب بأن إله كل قبيلة يحارب معها في حربها. لذلك، حملت القبائل صوراً وتماثيل لآلهتها في الحرب، وقد فعل ذلك أبو سفيان فحمل «اللات» و«العزى» في «معركة أُحد» ضد محمد. تعتبر «مناة» الأقدم، وكان العرب يتكنون بها مطلقين على أولادهم أسماء كعبد مناة وزيد مناة.
توسع تقديم القرابين عند العرب في الجاهلية ولم يكن مقتصراً على الحيوانات من إبل وشاة، بل كان بعضهم يتقرب إلى إلهه بما تنتجه الأرض من مزروعات، مثل الحنطة والشعير. وفي بعض الأحيان كانت القرابين المقدمة إلى الآلهة بشرية، ظناً منهم أن الآلهة تحب هذا النوع من القرابين، وأنها أكثر فاعلية في دفع الأوبئة والنكبات. هنا يرى حما في تفسير قد يبدو جديداً لبعضهم.

يعتبر أنّ وأد البنات
قبل الإسلام كان ذا
دافع ديني


إذ يشير إلى أنّ وأد البنات عند العرب قبل الإسلام كان ذا دافع ديني حصراً. وبذلك ينفي المقاربات السابقة التي ربطت الوأد بخشية العار والفقر. هذا ما أشار إليه أيضاً كل من الزمخشري والرازي، ما دفع الباحث وحيد السعفي في كتابه «القربان في الجاهلية والإسلام» إلى ترجيح أن الوأد لم يكن كرهاً لأنثى أو خوفاً من عار بل تقرباً من الرب. كان العرب يعتقدون أن كل أنثى بنتُ للرب، الملائكة و«اللات» و«العزى» و«مناة الثالثة» الأخرى وأنثى الإنس أيضاً، وكانوا في هذا لا يخالفون ما جاء في الثقافات الأخرى من اتجاهات تنصّب المرأة بديلاً للرب.
يتناول حما في الفصل الثاني الأشكال الدينية التي تقدم بها القرابين في نصوصها الدينية للديانات الثلاث التوحيدية: اليهودية والمسيحية والإسلام، معتمداً على ملاحظة الاختلافات بناءً على منهج المقارنة النقدي. يدرس الكاتب القرابين في التشريع اليهودي الذي يحتوي على أنواع مختلفة منها: المحرقات للتكفير عن الخطيئة، ذبائح الفصح، ذبيحة الخطيئة التي تصدر عن الفرد من غير عمد، قربان الحنطة، الرفيعة وهي من الغلال بعد الحصاد، وذبائح السلامة وكانت للشكر أو للتكريس للرب. وهناك ذبيحة الجماعة التي تقدم إذا أخطأت جماعة من بني إسرائيل. التقدمة ورد ذكرها في سفر اللاويين. وأخيراً هناك ذبائح الإثم التي تقدم غالباً عن الخطايا الشخصية. اللافت أن الحسن حما يشير إلى أن القرابين البشرية كانت معروفة في العقائد اليهودية وظلت سائدة لفترة زمنية متقدمة، مستنداً في ذلك إلى بعض الكتّاب مثل عبد الوهاب المسيري، ومحمد عبدالله الشرقاوي وبولس الفغالي. وبناءً على قراءة الآيات القرآنية، يحلل الكاتب شعائر القربان في الإسلام. عرض لها في ثلاثة مواضع: الأضحية التي تخص يوم النحر في عيد الأضحى، قربان ابني آدم، والذبيح إسماعيل. وعلى أهمية بعض الخلاصات التي خرج بها ضمن مفاصل عدة، كان بمقدوره الإفادة من كتاب العلامة يوسف شحلت «الأضاحي عند العرب» الذي درس المسار العكسي للأضحية المؤسلمة. علماً أنه استعان بكتابه في نسخته الفرنسية حين قام بتعريف مفهوم التضحية ولم يوظفه في مقاربته للأضاحي في الإسلام. قارن الكاتب بين عقيدة الفداء التي تؤسس للقربان المسيحي بما يقابلها في القرآن. وقد وقع في خطأ منهجي حين اكتفى بالاستعانة بالمراجع ذات الصفة العقائدية أو الايديولوجية التي تأتي غالباً في سياق الرد الديني. ولم يبذل جهداً في الرجوع إلى الدراسات العلمية النقدية في هذا الموضوع. في نهاية كتابه، عرض حما الجوانب الأساسية التي شملها التطور في تقدمة القرابين في الديانات الثلاث، انطلاقاً من آثارها الاجتماعية والثقافية وذلك من خلال تطورات الوعي الإنساني. ليس في الكتاب ما يوحي أن مؤلفه قدم مادة جديدة. لقد حاول الإحاطة، ولو على عجالة، بظاهرة القربان ورموزها كما تبلورت تاريخياً وعقدياً في الأديان الوضعية والسماوية، فيما بدت النبرة الدينية التراثية أشد حضوراً عنده وافتقد للمقاربة العلمية الحيادية.