هو موت من نوع آخر. موت بطيء تصبح فيه الثواني، لا الأيام أو حتى الساعات، هي الوسيلة الوحيدة لقياس الزمن الذي يكاد لا يتحرك؛ والدقّات المنتظمة الوحيدة المترافقة مع نبض القلوب. يصبح هذا النبض الواثق بذاته سلاحاً آخر ضد قرع الأحذية العسكرية للسجّان الإسرائيلي على الأرض التي كانت وطناً وأصبحت سجناً. أن تصبح سجيناً في أرضك وأن يكون السجّان هو عدوّك، لهي مفارقة قاسية. وما يزيد المفارقة قسوة هو أنك مجهول، ومجرد رقم في السجلات العسكرية لعدوك. أما الفضيحة الفعلية، فهو أنك قد تصبح رقماً آخر في الفضائيات التي كانت عربية وتنتظر الآن دورها لـ «السلام».
ليس للأسرى الفلسطينيين في سجون العدو سوى العناد والصبر... والبوح. العناد في استمرار نبض قلوبهم، والصبر على الثواني والساعات والأيام التي تتتابع على وقع قرع أحذية السجّان، والبوح بما في ذكرياتهم وقلوبهم، كي لا يصبح رفاقهم الذين بقوا في السجون مجرد أرقام.
عمد كلٌّ من نورما هاشم ويوسف الجمل في الكتاب الذي أشرفا عليه «مذكّرات الأسرى: أصوات فلسطينية من المعتقلات الإسرائيلية» («الدار العربية للعلوم ناشرون» و«مركز الدراسات السياسية والتنموية»؛ فكرة وإعداد ياسر البنا)، إلى إلقاء كرة النار إلى الجميع. هذه هي الشهادات المروّعة التي رواها 43 أسيراً، ونُشرت في صحيفة «الشباب» في غزة، بعد إطلاق سراحهم في صفقة تبادل الأسرى مع العدو التي تم بموجبها إطلاق سراح 1027 أسيراً فلسطينياً في 18 تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
لا تكمن أهمية هذا الكتاب في تدوين ذكريات الأسرى، واستعادة لحظات صبرهم وإيمانهم وقوتهم ونضالهم داخل السجن فحسب، بل أيضاً في الجهد التشاركي الجماعي في إعداده وترجمته إلى الإنكليزية (صدر كتاب يضم 22 مقابلة وشهادة عام 2013) وتحرير الشهادات، بل حتى في كتابة التمهيد والتقديم والمقدمة، ووجود دارَيْ نشر.

إضاءة على المعتقلين الإداريين وعرض الممارسات الوحشية
من جهة أخرى، لا يكتفي الكتاب بالبعد الإنساني، بل نجد الصورة والوثيقة والأرقام حاضرة بين الشهادات، ليصبح العمل مرجعاً حقيقياً، بخاصة في استناده إلى أبحاث مؤسسات وطنية كـ «مركز الدراسات السياسية والتنموية» (غزة)، أو «مؤسسة الضمير لدعم الأسرى وحقوق الإنسان» (رام الله)، وكذلك في تكريسه لاصطلاحات أساسية في الأبحاث أو في الحرب الإعلامية عند الإشارة إلى أن هذه الصفقة هي «وفاء الأحرار» وليست «صفقة شاليط»، وإلى أن عمليات الاعتقال للناشطين الفلسطينيين هي خطف لا أسر.
وبذلك، يصبح صاحب الحق هو من يستحق الصورة بأكملها، لا العدو الذي سعى منذ عقود إلى احتكار الصورة والخبر الإعلاميين، فوقعت مؤسسات إعلامية كثيرة في هذا الفخ، وجعلت من العدو ضحيةً، أكان ذلك عن عمد أو عن سذاجة.
هناك 800 ألف فلسطيني تم اعتقالهم منذ عام 1967؛ و75,000 اعتُقلوا منذ بداية انتفاضة الأقصى عام 2000؛ و2000 حالة تعذيب في عام 2008 وحده. وبين آذار (مارس) 2002 وتشرين الأول (أكتوبر) 2002، أُلقي القبض على 15,000 فلسطيني في حملات اعتقال جماعي.
ومنذ مطلع شهر آذار (مارس) 2014، تم إحصاء 5224 أسيراً فلسطينياً داخل السجون الإسرائيلية، تضمنوا: 183 معتقلاً إدارياً؛ و210 طفلاً؛ و21 امرأة؛ و11 عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني؛ و476 أسيراً محكوماً مدى الحياة؛ و439 محكوماً بالسجن بأكثر من 20 عاماً؛ و30 أسيراً تم اعتقالهم قبل توقيع «تفاقية أوسلو» (1993)؛ و159 أسيراً من القدس؛ و235 أسيراً من أراضي الـ 48.
يلقي الكتاب الضوء على شريحة مهمة من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وهم «المعتقلون الإداريون» الذين قد يُسجَنون لسنوات من دون محاكمة. ليس خضر عدنان أو سامر العيساوي أو هناء شلبي وحيدين. هناك عشرات، بل ربما مئات المعتقلين الإداريين الفلسطينيين الذين يخوضون معارك «الأمعاء الخاوية» بشكل شبه يومي مع سجّانيهم.
هذا الإضراب عن الطعام أصبح البندقية والصاروخ الآخر ضد العدو، إنما من داخل أسوار سجنه. قد تنجح هذه الخطوة بشكل كلي، أو جزئي، وقد تخفق مؤقتاً، ولكنها بكل تأكيد، أسهمت في تحطيم أعصاب العدو لأنها جذبت اهتماماً عالمياً معقولاً، وهذا ما يخشاه العدو قبل أي شيء آخر: أن تصبح ضحيته معروفة، ذات اسم وعُمر وصورة وصوت ...
وهويّة.
ولا ينسى الكتاب الإشارة إلى الممارسات الوحشية الإسرائيلية في السجون، التي تبدأ بعدم وجود حق في توكيل محامٍ أو إجراء محاكمة، ولا تنتهي بسوء الخدمات الطبية أو المنع من الزيارات أو حتى التقاط الصور مع الأهل، عدا محاولتهم تكريس جدار عازل معنوي عبر بث الخلاف بين الأسرى على أساس الفصائل (بين «فتح» و«حماس» بصورة خاصة)، أو الجغرافيا (بين أبناء الأراضي المحتلة عام 1967، وأراضي الـ 48). كذلك، يؤكّد الكتاب على حقيقة غائبة عن الإعلام تتمثل في قضية المُبعَدين إلى غزة منذ عام 2002، حين احتلت قوات العدو مدينة بيت لحم للقبض على المقاتلين الذين لجأوا إلى «كنيسة المهد»، ليتم التوصل أخيراً إلى اتفاق يتم بموجبه إبعاد المقاتلين إلى قطاع غزة لمدة سنة، لتصبح السنة 12 سنة حتى الآن.
إضافة إلى ذلك، لم ينس معدّو الكتاب الإشارة إلى الأسير حسن سلامة، المحكوم بالسجن المؤبد 46 مرة (السجن المؤبد 99 عاماً للأسير الأمني) الذي قضى 18 عاماً في السجن حتى الآن، منها 13 عاماً في العزل الانفرادي الذي لم يخرج منه إلا بضغط من الأسرى بعد إضراب جماعي عن الطعام عام 2012، حيث كانت رسالته إلينا جميعاً هي خاتمة هذا الكتاب المهم.