أعادنا «أسبوع الأدب العربيّ» الذي ينظّمه «متحف محمود درويش» في رام الله إلى قضيّة التطبيع الثقافي، بعد حضور الشاعر البحرينيّ قاسم حدّاد، والروائيّة الكويتيّة بثينة العيسى، والروائيّ السوادني حمور زيادة في هذا المهرجان، يشارك معهم الأديبان الفلسطينيان إبراهيم نصر الله وأنور حامد، فأُثيرت السجالات مجدداً: هل هو تطبيع أم لا؟
بالطبع، ليس ثمة إشكاليّة بشأن الأديبين الفلسطينيَّيْن أكانا في الداخل أو الخارج، ففلسطين بلدهما أولاً وأخيراً ولهما حقّ العودة متى شاءا وكيفما شاءا، بتأشيرة إسرائيليّة أو بدونها، اليوم أو غداً، حضوراً لمهرجان أو زيارة أو عودة للاستقرار. أظنّ أنّ هذه الفكرة لا تحتمل نقاشاً. ولكن ماذا عن الأدباء العرب الآخرين؟ أليست التأشيرة الإسرائيليّة دليلاً على وجود اعترافٍ ضمنيٍّ بوجود خللٍ ما؟ هل هناك فارقٌ حقاً إن كانت الفعاليّة الثقافيّة في رام الله أو القدس؟ (بالمناسبة توجّه بعض الكتّاب إلى القدس لالتقاط صور لكنيسة المهد!). وهل النقاش في هذا الموضوع فائضٌ عن الحاجة حقاً وليس أكثر من «تخوين» أو إعادة لطرح مصطلحات «خشبيّة»؟ أم هو الجوهر ولا شيء آخر؟ والسؤال الأهم: هل تحديد معايير التطبيع حِكْرٌ على الفلسطينيّين فقط؟
هل الزيارة فعل مقاومةٍ حقاً، أو حتى دعم للفلسطينيين؟

بدايةً، من الحماقة أصلاً مجرّد التفكير أنّ اتّهام شخص بالتطبيع يعني تخوينه. هاتان مسألتان مختلفتان كلياً، وإنْ كانت إحداهما قد تُفضي إلى الأخرى في حال كان الشخص مُدركاً لأبعاد فعل التطبيع كاملاً، ويتعامى عن المسألة الأساسيّة المتعلقة بوجود احتلال إسرائيليّ لهذه الأرض التي لن تساهم زيارته لها بإنقاص درجة الاحتلال، إنْ لم تكن ستعمّقها أكثر بخاصة في ظلّ إدراكٍ إسرائيليّ تام لمعنى وجود التأشيرة الإسرائيلية كشرطٍ لدخول فلسطين. هل الحل يكون بالقفز على العقبة الصغرى (التأشيرة) أم العمل على إزالة العقبة الجوهريّة (الاحتلال)؟ وهل الزيارة فعل مقاومةٍ حقاً، أو حتى دعم للفلسطينيين؟ ما الفارق بين الحضور الجسديّ والحضور عبر «سكايب» مثلاً؟
المفارقة هي أنّ تزايد عدد المثقفين العرب المطبّعين يترافق مع تزايد عدد المثقّفين والفنّانين الأجانب الرافضين لزيارة فلسطين طالما أنّها تحت الاحتلال الإسرائيليّ. هنا، تنتقل المسألة إلى بُعدٍ آخر أهم: ما الذي فعلناه لدعم فلسطين فعلاً بعيداً عن المهاترات الإعلاميّة واستعراض العضلات الكلاميّة وحتى الزيارات الفولكلوريّة؟ من منّا يعرف عن فلسطين بمشاهدها السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة أكثر مما يُتيح لنا الإعلام الرسميّ وشبه الرسميّ؟ بل، وبكل صراحة، لمَ تناسينا فجأةً كمّ العنصريّة البغيض الذي وجّهناه جميعنا إلى الفلسطينيّين عبر السنوات، لنتذكّر فجأةً أنّ براء الجروح لن يتمّ إلا بزيارةٍ للبلاد التي احتُلّت منذ ما يقارب سبعين عاماً، فترتاح الضمائر بانتهاء الزيارة، ونعود حينها إلى مهاتراتنا القديمة وعنصريّتنا المُستعادة؟
التّطبيع، بمعناه البسيط المباشر والوحيد، جعل ما هو غير طبيعيٍّ طبيعياً. إسرائيل وضع غير طبيعيّ وأيّ تواصل معها يعني بالضرورة إسباغ سمة الطبيعيّة عليها. هل الكتّاب المشاركون في هذه الفعاليّة خونة؟ بالطبع لا. هل هم مطبّعون؟ ربما، ولكنّ زيارتهم تطبيعيّة حتماً. وهنا، لا أظنّ أنّ هناك معنى لما يريده البعض من «البدء بنقاش هادئ بعيد عن الانفعال» بخصوص هذه القضيّة، إلا أنّ هذا النقاش لا بدّ من أن يبدأ بتوصيف الزيارة كما هي فعلاً: تطبيع، ثم يبدأ النقاش بشأن ما الذي يمكننا فعله حقاً لمناصرة الفلسطينيين.