متعبة هي الكتابة بعد رحيل الديكتاتوريات، لكنّها أمر ملح. لحظتها فقط يمكن للكتّاب التنفّس وقول ما لم يمكنهم قوله خلال سنوات، لكن السؤال: إذا رحلت ديكتاتورية وجاءت واحدةٌ أكثر سوءاً مما سبقها، فكيف تكون الكتابة؟ هذه الإشكالية هي التي يطرقها الكاتب العراقي الزميل حسين السكاف في عمله الجديد «الرواية العراقية: صورة الوجع العراقي/ ثماني سنوات في عمر الرواية العراقية 2004-2012». كان السكاف نفسه واحداً من أوائل الروائيين العراقيين الذي أصدروا رواياتٍ بعد سقوط نظام صدام حسين. نشرت له «دار ميريت» المصرية «كوبنهاغن ـ مثلث الموت» عام 2007.
وإذ ينظر كثيرون إلى كتابه الجديد الصادر عن «دار روسم» (بغداد) بوصفه قراءةً نقدية، يصر المؤلف على كونه لا ينتمي «إجمالياً» إلى تلك الفئة. هو لم يستعمل أياً من النظريات النقدية المعروفة، واكتفى أحياناً بعرض الروايات والتعليق عليها والغوص بداخلها، سامحاً لنفسه كما للقارئ بتعريتها أكثر من مجرد نقدها نقداً صرفاً ضمن ضوابط محددة. لا يألو الكاتب جهداً في إيصال هدفه الرئيس وراء الكتاب: إنه أرشفة عصورٍ من الرواية العراقية، وهو الأمر الذي تفتقده المكتبات العربية (لا العراقية فقط).

يأتي الفصل الأول ليقارب الروايات التي تتحدث عن زمن ما قبل وصول «حزب البعث» إلى الحكم أي عام 1968. لم يهتم الكاتب كثيراً بزمن صدورها بمقدار ما اهتم بالمرحلة الزمنية التي تحكي عنها. واللافت أيضاً أنه لم يعر أدنى التفاتة لفكرة أدب الداخل وأدب الخارج (أو أدب المنفى)، والسبب كما يشير إلى أننا «أمام نتاجٍ عراقي بغض النظر عن مكان إنتاجه». يُسرُّ الكتاب في مقدمته بأن العراق ليس بلد الروايات، بل بلد الشعر والشعراء، وإن الروائيين لم يشكلوا أبداً حالة داخل العراق. مع ذلك، فإن أغلب الشعراء اعتبروا «الرواية» أساس ثقافتهم وشعريتها. جاءت الروايات المختارة لترسم «الجذور» بدايةً كـ «خلف السدّة» لعبد الله صخي (دار المدى ـ 2008) وهي روايةٌ تبدأ منذ أيام العصر الملكي لتصل إلى مرحلة الاحتلال الأميركي لتروي واقعاً مراً: ضاحيةٌ تصبح مدينةً، المدينة يصبح لها اسم، الاسم يتغير تبعاً للحاكم (خلف السدة ثم مدينة الثورة ثم مدينة صدام ثم مدينة الصدر).

يفنّد العلاقة الملتبسة بين
هذا الجنس الأدبي والكلب

هكذا هي الصورة بأبسط أشكالها. وكم كان لافتاً في الفصل نفسه الإشارة إلى رواية هدية حسين «مطر الله» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ 2008) التي تغطي الجغرافيا الأدبية نفسه، فالمكان هو ذاته، ولو بملامح روائيةٍ أخرى. إذ أشار السكاف بوضوح: «قد لا نبتعد من الصواب إن قلنا بأن رواية هدية حسين ما هي إلا الجزء الثاني من رواية عبدالله صخي».
يجنح الفصل الثاني المعنون بـ «روايات زمن الديكتاتور» إلى مرحلةٍ أكثر قتامةً من التاريخ العراقي (1969ـ 2003). إنه مسيرة الآلام الطويلة في حياة العراقيين كما في الرواية والأدب. يميز الكاتب بين مرحلة حكم البعث (1969) ومرحلة حكم صدام حسين (1979) مشيراً إلى عدد الروايات التي ركّزت على تلك المرحلة. وبما أنّها كثيرة، فقد انتقى منها 15 تتحدث في أمورٍ شتى وأمر واحد معاً: الألم والموت، الحرب والأشلاء المقطّعة، وبالتأكيد الأرواح الخواء. نشهد في «المحرقة» (قاسم محمد عباس ـ دار المدى 2010) كما في «خضر قد والعصر الزيتوني» (نصيف فلك ـ دار المدى 2008) إشارات إلى المقابر الجماعية التي أعدت للمنتفضين على نظام صدّام عام 1991، وهنا تختلط مأساة الفرد بمأساة الجماعة.
يعنون الفصل الثالث نفسه رمزياً بـ «سقوط التمثال»، ويأخذه مرتكزاً لوجوده. لكن ما أعقب سقوط التمثال الصدامي كان بوابة آلامٍ جديدة لا حدود لها. تأتي رواية «الأمريكان في بيتي» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011) لنزار عبد الستار كصفعةٍ في الوجه. إنها الجدران المخيفة في تلك الرواية، الجدران التي تصبح لوحاتٍ يعلّق عليها «الإرهابيون» أسماء من يعتقدونهم متعاملين مع «الاحتلال الأميركي»، هكذا بكل بساطة يمكن أن يصبح «اسمك أنت» ضمن القائمة. ساعتها ليس أمامك وقت حتى للهرب.
يتطرق الفصل الرابع إلى الروايات غير العراقية التي كتبت عن بلاد الرافدين، كرواية المصري محمود الورواري «حالة سقوط» (الدار العربية للعلوم ناشرون 2011) التي تؤرخ لقدوم جيلٍ من العمال المصريين إلى العراق للعمل ليصبحوا فجأةً ومن دون علمهم جزءاً من الألم العراقي وتجلياته. إنّها روايات تعرّي العراق كما رآه الآخرون وإن «بحب». ذلك يظهر أيضاً في رواية المصرية هالة البدري «مطرٌ على بغداد» (دار المدى 2010) وهي تحكي ذكرياتٍ عاشتها مراسلةٌ إخبارية مصرية تعمل في العراق.
أما عن علاقة الرواية العراقية بالكلب التي هي علاقة ملتبسة شديدة الوهم والخصوصية، فيتطرق إليها الكاتب من خلال فصلٍ كامل، مشيراً إلى تماهيات الكلب مع مختلف الرؤى والتصورات، فمن الصديق والحامي الوفي إلى الوحش الهصور المتربص بالجثث إلى الخائف الجبان المرتاع. تجلياتٌ كثيرة لحيوانٍ واحد ذي أثرٍ تفصيلي كبير على رواية تلك البلاد. في الختام، يأتي الفصل الأخير كنوعٍ من «إعطاء كل ذي حقٍ حقه» مروراً على رواياتٍ لم يحكَ عنها بشكل كافٍ.