دمشق | حسناً فعلتَ يا رجُل. لقد متّ في الوقت المناسب تماماً! ذات ثلاثاء عربي عادي، في منتصف الأسبوع. ليس ثمّة عطلة، ولا تراكم في الأنباء الواجبة النشر. سيكونُ من السهلِ أن تخصص لك الصحف صفحات وصفحات في اليومين التاليين. لا أحداث خارجة عن المألوف تدعو إلى الانهماك فيها، وتقليص مساحات نعيك. كل شيءٍ على ما اعتدنا: «الخفافيشُ وراء الصحف (...) وعلى واجهة الكتب وسيقان الصبايا».
و«ملءُ مدارج التاريخِ أفواج من الشهداء». حسناً فعلت، المشهدُ مناسبٌ تماماً. دمشقُ تضحكُ علينا، إذ نُصدّق أنها بخير. و«في بغداد نازفةٌ دماء شعبي من حينٍ إلى حينِ». القاهرةُ تجمعُ المُمثلين في فصول مُكررة من مسرحية باهتة. وغزة من جديد تحت النار. حسناً فعلت، المشهد مثالي، العالمُ العربيّ كلّه كـ «خليج جونية المنفرج كفخذي قحبة تنتظر رجال البحرية الأميركية». ويمكننا هجاء واشنطن كما نشاء: «في فيتنام مذبحة وأنت تُصدّرين / كعكاً وأدوية الى القمر الحزين/ وتكنسين على دم الجرحى الزبالة». كلّ شيءٍ مُناسب، ستجدُ الشاشاتُ فائدةً إضافيّة في استعادة بعض مما قلت، فنحنُ ـ كما المعتاد ـ في أمسّ الحاجة إلى البكائيات. ستُساعدُ في ذلك قصائدكَ المغنّاة، فالغناءُ ملائمٌ لحفلات العويل العابرة. سيكونُ سهلاً علينا نحنُ الكَتبةَ أن نجترّ المراثي ذاتها، مستعينين بك. كأن يدخل أحدنا إلى نعيك من باب «الدم الصهيل»، مٌستعيراً منها: «يا رائحاً للشام سلم على الحبيب». ويوسّع آخر العَدسة، فيصطاد من «تغريبة» قولك: «لأن البلادَ – دع الشعر – ليست تفكر في النازحين». وعبرها يردد كثيرون صرختك: «ولم يبق في الأرض غير الذين يحبوننا ميتين»، وكأنّ الأرض اتسعت لسواهم يوماً ما! حسناً، علينا أن نشكرك ونعترف، لقد تركت مفاتيح كثيرة للراثين. أنا أفكرُ مثلاً في عقد مقارنةٍ بيني وبينك. سأقولُ: إنّني مثلُك، شاعرٌ اشتغل في الصحافة. الأمر سهلٌ - كما ترى – في زمانٍ باتت فيه حيازة لقب شاعر أسهل من حيازة عقب سيجارة. وباتَت فيه «سوق الصحافة» مفتوحة على مصراعيها أمامنا، نحن الطارئين. ولن يكونَ صعباً أن أختتم بجملةٍ من طراز: «هذه ليست مرثيّة يا سميح». أتسألُ عن الآخرين الذين لن يحلو لهم تمجيدُك؟ لا تقلق، لقد اخترت التوقيت المناسب لهؤلاء أيضاً: محاكم تفتيشنا تخضرمَت، والمشانقُ جاهزةٌ في كل حين. وسيكونُ سهلاً عليهم أن يجدوا في مسيرتك ما يستوجبُ ذبحك. هل قلتَ يوماً إنّ هناك «سوناتا سيئة، ومارشٌ جيد»؟. دعني أبشّركَ إذاً، سنعزفُ في وداعك عشرات السوناتات الرديئة، وعشرات المارشات الأشد رداءة. لن يفاجئكَ هذا حتماً، فأنت تعي جيداً القيمة الحقيقية للزمان العربي الذي اخترتهُ ميقاتاً لموتك. ها أنتَ تبتسمُ ساخراً إذ أكرر قولي: لقد متّ في الوقت المناسب تماماً. ويخطر لكَ أن تشدّني من أذني صارخاً: كل الأزمنة العربية مناسبةٌ لموت شاعرٍ يا ولد.