لم يكن مستغرباً تلك العلاقة الملتبسة بين سميح القاسم (1939 ـ 2014) ومحمود درويش (1941 ـ 2008)، فهما لطالما تخاصما وتحابا، تقاتلا وتراسلا. ولا ريب في أنّ جناح البرتقالة الثاني (أو الأول) للشعر الفلسطيني، عرف ذات يوم بأنّ منافسه الأبرز فلسطينياً سيرحل بصمتٍ وهدوء ذات يوم، وستكون له (هو) غلبة وإن «زمنية» على الساحة الشعرية. لكنه مع هذا لم يكن سعيداً، فغياب المنافس لا يعني إلا أن الساحة أرضٌ بوار. هكذا صنّفها القاسم يوم رحيل درويش، فنعاه، ونعى الأرض التي استحالت بواراً بعد رحيل «شاعرٍ خاصب».
عاش القاسم حياةً مليئة بكل شيء، شأنه شأن درويش. وإن لامس محمود النجوم أكثر، فلأنّه طرد من فلسطين، وتجوّل وسافر، ومارس حياةً شخصيةً صاخبةً، وسياسية أكثر صخباً، نزق الشعر ونزفه، لذلك كان طبيعياً أن يحصّل شهرةً أكبر من شاعري فلسطين المجايلين له: توفيق زيّاد وسميح القاسم. كل ذلك لم يرهق سميح كثيراً، ولم يفكّر به أكثر، فهو في رسائلهما المشتركة التي عنوناها «الرسائل»، حكى كلام «الصديق للصديق» وليس الشاعر للشاعر فحسب. كانا مجرد فلسطينيين يتبادلان اطراف الحديث بعمقٍ وعلانيةً.

اعتبرت سلمى الخضراء
الجيوسي بأنّه «الوحيد الذي تظهر عليه ملامح شعر ما بعد الحداثة»


الشاعر المولود في الزرقاء في الأردن الذي واجه «الإسكات» منذ لحظات حياته الأولى حين كاد ركاب القطار العائد إلى فلسطين خلال الحرب العالمية أن يقتلوه ـ وهو إذ رضيع ـ لإسكاته خوفاً من طائرات الألمان، قال يومها: «حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم، سأتكلّم متى أشاء، وفي أيّ وقت وبأعلى صَوت، لنْ يقوى أحدٌ على إسكاتي». وهو ما فعله بشكلٍ مباشر. لن يسكته أحدٌ بعد اليوم، سيرفع الصوت خفاقاً ضد الصهاينة في كل مناسبة، ما حدا بهم إلى رميه في أكثر من زنزانة ووضعه في الإقامة الجبرية مراتٍ عدة ومنعه من السفر مراراً. هذه العوامل أثّرت كثيراً في «شعريته»، وهو ما افتقده شعر محمود درويش بشكلٍ مباشر وفق ما يشير كثيرٌ من النقاد. الاحتكاك المباشر واليومي مع المحتل، يجعلك أكثر حدةً، ويقرّب شعرك من أذهان من تريد مخاطبتهم. ظلت قصائد القاسم قريبة المآخذ، وإن لامست جوهر الشعر نفسه. أما قصائد درويش التي أعقبت رحيله من فلسطين (وحتى عودته إليها لاحقاً وإن لم يدخل قريته أبداً)، فتبدو أكثر «حداثةً» حتى ليشير كثيرون إلى أنّ شعر درويش هو الأحدث بين معاصريه ولو خالفت الباحثة والكاتبة سلمى الخضراء الجيوسي هذا الأمر بوصفها سميح القاسم بأنّه «الشاعر الوحيد في الوطن العربي الذي تظهر عليه ملامح شعر ما بعد الحداثة». شعرياً، امتاز درويش بتقديره الصائب للمرحلة ربما بسبب تجواله بين العواصم سياسياً وثقافياً، وهو عنصر كان يغيب عن شعر القاسم لضلوعه في المواجهات اليومية المباشرة مع الصهاينة.
عرف القاسم الشهرة وإن بدرجةٍ أقل خارج فلسطين، فهو لم يخرج من هناك إلا مراتٍ قليلة وبصعوبةٍ بالغة، لكن من ينسى لقاءه بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد (ضمن وفد من دروز الداخل الفلسطيني في 8-8-1997) الذي أسر له بأن معظم جنود الجيش السوري يحفظون قصائده، وبأنها تُدرَّس ضمن المنهاج التعليمي السوري الرسمي. في الوقت عينه، كان درويش يأخذ المجد بكامله، يزور الرؤساء ويجتمع بالقادة ويؤسس لمرحلة شعريةٍ جديدة في الشارع العربي: كان النجم الوحيد للشارع الشعري في وطنٍ عربي بأكمله. قاعات تمتلئ حتى آخرها، فتيات يتهامسن لمجرد رؤيته، وفوق كل هذا قيمةٌ سياسية مرتفعة من خلال علاقةٍ أكثر من رائعة مع «منظمة التحرير الفلسطينية». لم يعرف القاسم علاقةً مماثلةً مع منظمة التحرير، فلقاءاته مع «الختيار» (أبو عمار) كانت صاخبةً دائماً، وعرفات كان مولعاً بالاستعراض: مرةً، حمل مسدسه والشاعر يلقي قصيدةً على المنبر، اقترب منه وقال بصوتٍ مرتفع: «هذا مسدسي صوبني به إذا أنا أخطأت». الشاعر المتوثب الذكي عرف كيف يتلقف الفكرة: «أنا أصوبك بكلماتي وقصائدي»، هكذا أجاب وهكذا انتهت القصة كما العلاقة مع المنظمة.
أما الجمهور، فتلك حكايةٌ أخرى مع القاسم. هي تلك العلاقة المباشرة مع المحسوس/ المسموع والمرئي/المشاهد، فالظهور الشعري المباشر يظل ذا أثرٍ كبيرٍ (خصوصاً في تلك المرحلة التي لم تكن تمتلك أياً من تكنولوجيا هذا العصر). كان وجود درويش بشكلٍ فعلي في بيروت (أو أي عاصمةٍ أخرى كعمان والقاهرة والرباط) يجعل الإقبال عليه أكثر من غيره، بسبب شعره وكاريزماه وجاذبيته، وبالتالي كان يسحب البساط من تحت أي منافسٍ مهما كانت أهمية «المُقال». لم يزر القاسم عاصمة الشعر العربي «بيروت»، ولم يقدّم أي أمسيةٍ فيها (رغم محاولات رئيس «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط لإحضاره إلى بيروت عام 2001). في الإطار عينه، كرّس غناء مرسيل خليفة لمحمود درويش الشاعر الفلسطيني كأيقونة، ذلك أمرٌ لا شك فيه، حتى إنّ كثيرين ما زالوا حتى اللحظة مقتنعين بأن «منتصب القامة» هي لدرويش لا للقاسم.




إصدارات وجوائز

خلال رحلته الأدبية الغزيرة، أنجز سميح القاسم ما يقارب 80 مؤلفاً في الشعر والقصة والمسرح والمقالة والترجمة. عام 1958 أصدر باكورته «مواكب الشمس» (1958) لتليها «أغاني الدروب» (1964) و «إرم» (1965)، وغيرها من الدواوين التي شكّلت هويّته الشعرية المقاومة منها: «إلهي إلهي لماذا قتلتني؟» (1974)، «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم» (1976)، و«لا أستأذن أحداً» (1988)، و«الكتب السبعة» (1994). وفي الرواية كتب «إلى الجحيم أيها الليلك» (1977)، «الصورة الأخيرة في الألبوم» (1979). أما نتاجه النثري، فقد اشتمل على مؤلّفات عدة أبرزها «عن الموقف والفن» (1970)، و«أضواء على الفكر الصهيوني» (1978)، و«الرسائل _ مع محمود درويش» (1989)، و«مطالع من أنطولوجيا الشعر الفلسطيني» (1990)، وسيرته الذاتية «إنها مجرّد منفضة» (2011). لاقت مؤلّفات القاسم رواجاً بعدما ترجمت قصائده إلى الإنكليزية والفرنسية والتركية والروسية والألمانية واليابانية والإسبانية واليونانية والإيطالية والتشيكية والفيتنامية والفارسية والعبرية... ومن بين الجوائز العالمية والعربية التي نالها: جائزة «غار الشعر»الإسبانية، «جائزة البابطين»، واستحقّ «وسام القدس للثقافة» من الرئيس ياسر عرفات مرّتين، وجائزة «نجيب محفوظ» المصرية، وجائزة «الشعر» الفلسطينية.