على غرار مجموعاته الشعرية ذات النبرة المنخفضة والمعجم اللغوي المُوارَب، يرسل لنا أنطوان أبو زيد الانطباعات نفسها عن عوالم وأحداث وتخيلات طفيفة وشبحية تحدث في مجموعة «زهرة المانغو» (دار الفارابي) التي تضم عشر قصص قصيرة. الأحداث قليلة أصلاً في هذه القصص التي تُسرد على الحافّات الممكنة للواقع الذي تعيش فيه شخصياتها. إنها أحداث تجري في دواخل هذه الشخصيات وفي أحشائها، وتذهب إلى حيرتها وقلقها وانكساراتها ككائنات مأزومة بصمت ومرارة وجلال.
وإذا حاولت أن تخرج أو تتحايل على هذه الأزمة (التي تبدو شبحية وغريبة بدورها)، فإنها غالباً ما ترتدّ مهزومة أو متصدّعة، أو تبقى في حالة مؤلمة من اللاتحقق. الأزمة نفسها ليست تلك الحبكة أو العقدة التقليدية التي اعتادها القارئ في فن القصة القصيرة. إنها ليست أمراً جللاً أو موقفاً مصيرياً يتطلب مواجهة واضحة وحادة، بل يمكن أن تكون مجرد محاولة صغيرة ويائسة لتعديل شيء ما في مزاج أبطال القصص، أو أن تكون وهماً وتخيلاً قصير الأمد خارج الحياة الحقيقية، قبل عودة هؤلاء إلى ما هم عليه. والواقع أن بعض قصص المجموعة لا تتوفر حتى على هذا الوهم أو التخيل، ففي القصة الأولى «السائق» التي يبدو أنها تحدث على خلفية زمن الحرب، هي أفكار السائق العمومي وتأملاته البسيطة والمرئيات التي تتوالى أمام عينيه، فيتذكر أمكنة وأحياءً وبشراً مجهولين، ويقول لنفسه «إن الوقت الذي عاشه وراء المقود كان طويلاً للغاية، بل غير قابل للنسيان»، ولكنه «أوقف سيل الكلمات التي كان يقولها لنفسه، تلك الكلمات التي ما إن تُركت لحالها خرجت كالنمال السوداء والشقراء والطيّارة من ثقب أصغر من البؤبؤ بكثير».

عوالم خاوية وآلام مكتومة وشخصيات ترزح تحت أقدار ثقيلة

بأجواء مثل هذه، وبجملٌ تصفها بهذه الطريقة، يكتب الشاعر اللبناني قصص المجموعة التي أنجزت في تواريخ متباعدة ومتفرقة بين عامي 1991 و2006. إنها قصص كتبها شاعر في أوقاتٍ احتاج فيها ربما إلى سردٍ مختلف ومتحرر إلى حد ما من تكتّم القصيدة وانضباطها اللغوي. قصصٌ قد لا تؤخذ بالجدية الكافية عادةً عندما يكتبها شاعرٌ، لكن هذه الانطباع نفسه هو ما يمنح القصص جديةً من نوع آخر. لقد سبق لصاحب «نبات آخر للضوء» (1986) أن نشر مجموعة قصصية بعنوان «أحياء بأحياء» (1992)، ومجموعتين قصصيتين للفتيان، كما أصدر رواية وحيدة بعنوان «المشَّاء» (1998)، وهي مونودراما سردية طويلة لشخص يصف مزاجه ومشهدياته في رحلات تجوال وتسكع متتالية. القصد من هذه الملاحظات أن ما نقرأه في المجموعة الجديدة، لا يختلف كثيراً عن تقنيات ومسرودات ما قرأناه في أعماله النثرية الأخرى.
يلتقط أبو زيد عطالة الكائن وأزمته من دون أن يضيء عليها ويكشفها كاملةً، ويترك الكائن نفسه مجهولاً وغُفلاً. القصص هي هوامش وأوهام ونهايات مغفلة مثل أبطالها. في قصة «النجاة»، تلجأ عائلة إلى الجبل هرباً من القصف. القصة تغرق في وصف جزئيات الاستعادات والأغراض اللازمة للرحلة، بينما لدى وصولهم ينشغلون بالبحث عن دواء الضغط للزوجة، وعن بنزين للسيارة القديمة، حيث المياه مقطوعة في «البيت الريفي» الذي ستقوم الزوجة بتغيير لمبة المطبخ، فتقع عن الكرسي وتكسر يدها، ويكون الاتصال بالصليب الأحمر «نهاية سعيدة للرحلة». وفي قصة «النورس وحارس المنارة»، نرى العائلة ذاتها تقريباً على كورنيش البحر. الزوجة تتمشى وحيدة والولدان يتفرجان، بينما الزوج يتخيل قصة تدور في المنارة القريبة. في «زهرة المانغو»، مونولوج قصير لامرأة تصل بالتدريج إلى فكرة أنها مع الرجل الذي سيهجرها إلى الجانب الآخر من بيروت الحرب الأهلية. وفي قصة «تنفسي الذكريات... اشربيها»، مونولوج آخر لامرأة في مأوى أو مستشفى. وفي قصة «التلال المنطفئة» شخص جلجامشي معاصر يبحث عن عشبة الحياة التي قيل إنها تنبت تحت الثلج في منطقة الأرز العالية. وفي «ضربة النار والرماد»، تُسرد القصة على لسان امرأة مجهولة تستضيف شخصاً طارئاً في منزلها بسبب الأوضاع في الحرب. الشخص الذي سنعرف أنه صحافي أو كاتب في جريدة، يقضي وقتاً مخنوقاً وغير واضح في سينوغرافيا البيت، وزيارات الجيران لمضيفته، ثم يغادر إلى شارع الحمرا، حيث ستُجبره القذائف المتساقطة فجأة على اللجوء إلى منزل صديق هناك.
ما نختصره في عرض محتويات هذه القصص ليس سوى هيكلها العظمي. أما اللحم والأعصاب والشرايين والملامح فهي موجودة في الوصف والسرد الذي يقترب في بعض الأحيان من شعرية حيادية نعرفها في قصائد أنطوان أبو زيد. وصفٌ يتسرب إلى الفناء الخلفي للشخصيات، وإلى أفكارها التي تعيش في الجانب المظلم وغير المرئي من مزاجها المعطوب. إنها شخصيات ترزح تحت أقدارٍ ثقيلة، وتتغذى حياتها من رضّات نفسية وعضوية غامضة. القصص تترجم عوالم خاوية وآلاماً مكتومة، ويسري ذلك كله على الأمكنة والأشياء والحياة اليومية الجارية بينها.
كأن القصص تحدث «في بلاد الأشياء الأخيرة» بحسب عنوان رواية شهيرة لبول أوستر. إنها قصص البقايا والفضلات التي بقيت من مصائر أبطالها المكسورين من الداخل، ومن عيشهم الخافت الذي يشبه اللغة الخافتة التي كُتبت بها القصص. إنها «جسمُ ظلالٍ وخطوات»، كما عنون أبو زيد يوماً مجموعته الشعرية الثانية.



زمن انقراض القصة القصيرة

في قراءة قصص أنطوان أبو زيد، لا يمكن أن نتجاهل فكرة أن مجموعته تصدر في زمن انقراض فن القصة. نتذكر أن الكاتب السوري شوقي بغدادي كتب في ثمانينيات القرن الماضي مقالاً معبّراً بعنوان «القصة القصيرة جنسٌ أدبيُّ محتَقَر». كتّاب القصة في تضاؤل مستمر، بينما الشبان لا يقبلون عليها. الجميع يفضلون الشعر أو الرواية. وحتى الروائيون المكرّسون ما عادت تغويهم القصة، وأغلبهم يعتبر القصص الأولى التي أنجزها في بداياته مجرد تمريناتٍ لمسيرته اللاحقة في الرواية. قصص أبو زيد، إضافة إلى قيمتها السردية، هي بمثابة هدية نادرة وثمينة أيضاً.