واجه فيلم لوك بوسون «لوسي» (2014) كثيراً من الانتقادات، خصوصاً من الصحافة الفرنسية التي رأته شاهداً على تدهور مستوى المخرج الفرنسي وتوجّهه صوب سينما الأكشن التجارية بينما كانت الصحافة الأميركية أكثر احتفاءً ببوسون وبفيلمه الذي تصدر شباك التذاكر. العمل الذي تؤدي بطولته سكارليت جوهانسون ومورغان فريمان بالاشتراك مع الممثل المصري عمر واكد، يروي قصة الطالبة الأميركية لوسي التي تعيش في تايوان.
وبمحض المصادفة، تتورط مع عصابة للمخدرات تجبر لوسي على مساعدتها في تهريب المخدرات بعد إجراء عملية جراحية ووضع أكياس المخدر الجديد «سي بي ايتش فور» داخل بطنها. وحين تتعرض لوسي للضرب المبرح، تنفجر الأكياس داخل جسدها مطلقةً كميات هائلة من عقار «سي بي أيش فور» تجعل قدراتها الذهنية تتطور بسرعة مذهلة. في حين أنّ الإنسان العادي لا يستخدم إلا عشرة في المئة من دماغه، تبدأ هذه النسبة بالارتفاع لدى لوسي تحت تأثير المخدر حتى تصل إلى مئة في المئة ومعها تكتسب مواهب خارقة، فتسيطر على البشر ووسائل الاتصالات وتتحكم بالزمن. من حيث الحبكة الروائية أو الأسلوب، قد يكون «لوسي» أكثر قرباً إلى «العنصر الخامس» (1997) الذي حاز بوسون عنه جائزة «سيزار» أفضل مخرج. يتداخل الخيال العلمي مع الاكشن في أسلوب لا يخلو من الطرافة. وقد نجد تشابها معيناً بين شخصية لوسي وليلو (ميلا جوفوفيتش) في «العنصر الخامس» رغم أنّ لوسي امرأة عادية تماماً، وهذا ما يميزها عن بقية بطلات بوسون. لكنّ الاثنتين تتمتعان بقدر من البراءة أو حتى السذاجة فيفرض عليهما القدر هذه المهمة البطولية دوناً عن إرادتهما. تبدو هذه البراءة أو النقاوة كأنها العنصر المفضل لبوسون في رسم شخصياته عبر التناقض الذي تجسده بين هامشية ظاهرية وقدرها العظيم. يبدو اهتمام بوسون بثيمة المرأة المقاتلة نابعاً من التناقض بين صور العنف والرقة الذي يستطيع خلقه عبرها سينمائياً.

يحمل العمل
لمحات من شريط بوسون «العنصر الخامس»، وفيلم «هي» لسبايك جونز
ومن النقاط المثيرة للجدال في شريط «لوسي» هو الأكشن المبالغ فيه عبر صور المواجهات غير القابلة للتصديق التي تحدث بين رجال الشرطة والعصابات أو مشاهد المطاردة الاستعراضية كما حين تقود لوسي السيارة. لكن الأكشن كما يستخدمه بوسون ويوظفه في الفيلم بطريقة كاريكاتورية، هو الأسلوب نفسه الذي نرى لمحات منه أيضاً في «العنصر الخامس» كأنه سخرية من الأكشن نفسه، ويبدو أن المقصود منه تماماً هو عدم تصديقه. منذ اللحظة التي تفتح فيها لوسي باب الفندق في بداية الشريط، تدخل كأنما إلى السينما نفسها وتجد نفسها وسط فيلم أكشن تجبر على المشاركة فيه رغماً عنها وعلى التحول من شخص عادي إلى خارق. من خلال لغته السينمائية وإيقاع المونتاج، يروي بوسون هذه الحكاية اللامعقولة لكنه يكذبها في آن عبر حس السخرية الذي يسيّر شتى التفاصيل من الطريقة الكاريكاتورية الذي يصور بها رئيس العصابة ومرافقه الخاص الذي يصب له الماء لتنظيف يديه من الدماء إلى المشهد الذي يصوّر لوسي وهي في المستشفى وتقتل المريض الذين يجرون له عملية كي يتفرغ الأطباء لها، لكنها لا تنسى أن تضيف أنه لم يكن لينجو على أي حال، الأمر الذي حدسته عبر قدراتها الذهنية المتطورة. الأطرف من ذلك أن الأطباء يساعدونها كأن شيئاً لم يكن وتخرج من المستشفى ببساطة من دون أن تلاحقها الشرطة. هكذا يترك بوسون المشاهد باستمرار حائراً بين التراجيدي والكوميدي وبين التصديق وعدم التصديق، وتبدو هذه لعبته الأساسية. من ناحية أخرى، فالإجابات التي يقدمها الفيلم مبسطة رغم أنّ الأسئلة التي يستكشفها مثيرة للاهتمام في البداية. إذا كان الإنسان ــ واعتماداً فقط على 10 في المئة من دماغه ــ بنى الحضارة التي نعرفها اليوم، فما هو قادر على فعله إذا توصل إلى استخدام نسبة أكثر من قدراته الذهنية؟ بحسب الفيلم وكما يحدث للوسي، فهي تطور قدرات خارقة تسمح لها بقراءة ملايين الصفحات وتخزين معلوماتها وتصبح ذاكرتها دقيقة كالذاكرة الإلكترونية، فتتذكر كل شيء حدث معها منذ كانت رضيعة. تفقد شعورها بالألم وتسيطر على البشر كما على أجهزة الاتصال، وتتحول تدريجاً إلى كومبيوتر. هذا ما يحدث فعلياً في آخر الفيلم حين تختفي وتبعث رسالة قصيرة إلى الشرطي (عمرو واكد) مفادها: «أنا في كل مكان». نهاية تذكر حرفياً بنهاية فيلم «هي» لسبايك جونز. للمفارقة أنّ سكارليت جوهانسون تؤدي دور البطولة في الفيلمين. أما بالنسبة إلى المعرفة التي تكتسبها لوسي وتمررها إلى باقي البشرية بناء على نصيحة البروفيسور نورمان (مورغان فريمان)، فليست كما يصورها الفيلم إلا رحلة عودة بالزمن إلى الوراء تجريها لوسي وهي على كرسيها كمن يقلب محطات التلفزيون أو الويكيبيديا في إطار لا يخلو من الكوميديا، إلى أن تصل إلى المرأة الأولى لوسي في تاريخ البشرية فتتلامس أيديهما. رغم أن الفيلم يستكشف مفاهيم وأفكاراً قابلة للتوسع كفكرة تكاثر الخلايا أو اختيارها الخلود، إلا أنّ بوسون اعتمد خلطة يمزج فيها بين الخيال العلمي والأكشن والكوميدي، فلا يخلق مساحة لتطوير هذه الأفكار. كذلك لا تتمتع المؤثرات الخاصة التي يستخدمها لتصوير تفاعل الخلايا أو مراحل الكون بجمالية خاصة وتبدو إضافة استعراضية أو كاريكاتورية بخاصة مشاهد العقار وهو يسري داخل جسد لوسي.


* «لوسي»: صالات «غراند سينما» (01/209109)، «أمبير» (1269)، «بلانيت» (01/292192)



الأفضلية للصورة

الصورة ودلالاتها المجردة والتجريب في الأسلوب السينمائي هو نقطة الارتكاز في رؤية لوك بوسون السينمائية منذ أفلامه الأولى كـ «المعركة الأخيرة» (1983) بالأسود والأبيض والصامت تقريباً الذي يصور الصراع الأخير للنجاة على كوكب الأرض، وفيلم «مترو الأنفاق» (1985) إلى «الأزرق الكبير» (1988) حيث يخلق من الماء جمالية خاصة... أفلام أسّست لتيار سينمائي جديد في السينما الفرنسية في الثمانينيات عرف بـ «سينما الشكل» Cinéma du look. ومن خصائصها الاهتمام بالأسلوب السينمائي وجمالية اللغة البصرية ومنحها أفضلية على النص الروائي.