قبل اختراع الآيفون، وقبل استخدام الاندرويد، يذكر معظمنا أنّه كان هناك هاتف هيمن على سوق الهواتف الذكية المتنامي. بين التسعينيات وأواخر القرن العشرين، أحدث هاتف «بلاك بيري » تغييراً جذرياً في استخدام الهاتف المحمول. الهاتف الثوري الجديد، كان يسمح لك بكتابة واستقبال رسائل إلكترونية طويلة بفضل لوحة المفاتيح الشهيرة، ونظام رسائل فوري قادر على بعث رسائل غير محدودة في الوقت الفعلي، باستخدام «الـبلاك بيري مسنجر». الشركة الكندية RIM – Research in Motion التي أُنشئت عام 1984، صعدت بسرعة وسيطرت على كل شيء، وفي الوقت نفسه كانت نهايتها كارثية وفي وقت قياسي. أنشأ الشركة بعض الشبان والمهندسين العبقريين، لكن ليس في مرْأب سيارات في كاليفورنيا مثل شركة «آبل»، ولا على مقاعد «جامعة هارفرد» مثل فايسبوك، إنما في مكتب صغير في ووترلو في كندا.




لصعود وانهيار «بلاك بيري» قصة واضحة جداً ومنطقية، نقلها المخرج الكندي ماثيو جونسون في فيلمه الجديد «بلاك بيري» (2023) المطروح في الصالات اللبنانية. مايك لازاريدس (جاي باروتشيل) ودوغ (ماثيو جونسون)، شابان عبقريان يصنعان أجهزة «مودم» ويتلاعبان بأفكار واختراعات غير ناضجة، ولا يهملان أبداً أمسيات الأفلام واللعب على الكمبيوتر في شركتهما RIM التي أنشآها. مايك ودوغ لديهما فكرة عن هاتف ذكي مع لوحة مفاتيح كاملة، لكنهما غير ناضجين كفاية ولا يعرفان كيف يسوّقان لشركتهما أو اختراعهما. اكتشف رجل الأعمال جيم بالسيلي (غلين هاورتون) مفهومهما الأول للهاتف الذكي، فبدأت حياتهما تتغير، من مكتب صغير إلى شركة كبيرة مستحوذة على أكثر من 40% من سوق الهواتف الذكية. مايك مهندس عبقري ولكنه ساذج بعض الشيء، قليل الكلام وغير قادر على إدارة شركته. عناده وهوسه بالهاتف الذي اخترعه، وعدم استسلامه لثورة شاشة اللمس التي أطلقها جهاز آيفون، بالإضافة إلى المشاكل المالية التي أوقع فيها جيم الشركة، كلّها عوامل أدت إلى تدمير «بلاك بيري» في لحظة، وتم استبدالها بتفّاحة ستيف جوبز.
من حيث المبدأ، ابتعد المخرج الكندي عن الصورة التقليدية لأفلام السير المخصّصة للأشخاص الذين اخترعوا كل شيء نستعمله اليوم تقريباً. بنية مجزّأة للغاية وروح دعابة سريعة وشخصية تنتقل من الذكية إلى الخرقاء، جعلت الفيلم تجربةً مُرضية لا أكثر ولا أقل، نعرف فيها أكثر عن قصة الهاتف الذي اختفى بسرعة من بين أيدينا. تمكّن المخرج من الحفاظ على نوع من الطاقة وروح الهواة في الفيلم باستخدام الكاميرا المحمولة على الكتف، بعيداً عن تعقيد الإنتاج الهوليوودي النموذجي. لكن هذه النبرة السينمائية، فقدت بعد فترة، روحها ودورها، بخاصّة أنها لم تتعامل مع التغيير في وتيرة الفيلم والقصة البشرية من النجاح إلى الفشل.
حافظ المخرج على الطاقة وروح الهواة باستخدام الكاميرا المحمولة على الكتف، بعيداً عن تعقيد الإنتاج الهوليوودي


يفسر جونسون قصة صعود وهبوط «بلاك بيري» وصانعيه على أنّها درس أخلاقي غريب، في صورة خشنة مهتزّة، ونصّ مخادع يستخدم السخرية كنقطة مركزية. يُعد النظر في بداية صعود «بلاك بيري» جانباً جذاباً في الثلث الأول من الفيلم، ولكن عندما يبدأ حلّ المشاكل كلّها بالمال، الذي لا تمتلكه الشركة، تبدأ بلاك بيري بالخسارة، كما يبدأ الفيلم بخسارة مشاهديه أيضاً.
النص لا يهتم كثيراً بأخطاء الشركة. تلتقط الكاميرا خيبة الأمل والخسارة والوحدة الساحقة للفشل من خلال مشاهد قصيرة صامتة، من دون الذهاب بها بعيداً، كأنها شيء غامض لا ينبغي لنا معرفته. مرّ المخرج سريعاً على الأكاذيب وقواعد اللعبة الرأسمالية التي انقضّت على فناني التكنولوجيا الذين غيّروا العالم في فجر القرن الحادي والعشرين.
لا يأخذ «بلاك بيري» مساراً جوهرياً بعيداً عن روح الهواة بلغته السينمائية التي ذكرناها سابقاً. استخدم جونسون حقيقة أن أبطاله ليسوا معروفين مثل ستيف جوبز ومارك زوكربيرغ، ليقدّمهم بطريقة كوميدية. ومع تقدم الفيلم، تصبح القصة مطيعةً وحسنة السلوك. ينتهي الفيلم من دون ترك أي استنتاجات، بعيداً عن حقيقة أنّه كان هناك وقت سيطرت فيه هذه العلامة التجاريّة على العالم والرأسمالية. لذا يظل «بلاك بيري» فيلماً ترفيهياً لا يترك أثراً كبيراً، وينتهي به الأمر ليكون ذكرى لجيل وحنيناً إلى الماضي.

* BlackBerry في الصالات