تمنحنا بداية جيدة لفيلم، العديد من القرائن حول ما سنراه بعد ذلك، فهي تهيّئك كمتفرج. وليس ضرورياً أن تكون هذه البداية رائدةً أو عظيمةً، ولكن إذا جلست لمشاهدة فيلم إثارة وكانت البداية بطيئة نوعاً ما وتتباهى بصبرك، وما إلى ذلك، فمن الطبيعي أن يبدأ عقلك بالتفكير في ما عليك القيام به غداً. لذلك، فإنّ دقّة سرد الكثير في صور قليلة مع تجهيز العناصر المرئية والسمعية بطريقة تسمح بإخبار شيء ما، هو أمرٌ يقدّره المشاهد. بارك تشان ــ ووك، بارع في التمهيدات، يعرف تخييط البدايات، وفي «أولد بوي» (2003) يُظهر موهبته. منذ البداية (الدقائق العشر الأولى)، يقطع المَشاهد بطريقة حادة، تاركاً المتلقّي مذهولاً يريد معرفة المزيد. في ثوانٍ، يعرض لك الأسماء بخلفية سوداء حتى تستقرّ في مقعدك، بينما يداعب حواسك بلحن ناعم... ثم يعميك، ويُظهر لك صورة مثيرة للفضول: لماذا هناك رجل يحمل كلباً على وشك السقوط؟ ولماذا هناك رجل يمسكه من ربطة عنقه؟ ينتهي المشهد بسرعة، لنرى رجلاً سكراناً، ثم فجأة يتم خطفه ووضعه في غرفة. هذه البداية تحكي الكثير، لكن ما سيحدث بعدها، لا نزال نتحدث عنه إلى اليوم. بعد عشرين عاماً على إنتاج «أولد بوي»، ها هو يُرمم من جديد ليعود إلى الصالات قريباً.


15 عاماً، هي المدة التي سُجن فيها داي ــ سو أوه (تشوي مين ــ سيك) في شقة من غرفة نوم واحدة بدون نوافذ من قبل مجهولين. طوال هذه الفترة، ظلّ داي بدون اتصال بأي بشري آخر، مقطوع عن الحياة، يُقدَّم له الطعام ومواد العناية الشخصية ولديه تلفزيون. أمضى الأعوام في ارتباك حول سبب احتجازه ومدّته، وعَلم من الأخبار بمقتل زوجته. أُطلق سراحه فجأة بالطريقة نفسها التي سُلبت فيها حريته. منذ تلك اللحظة، سوف يبدأ البحث عن إجابات. بحث عن ابنته الصغيرة التي أصبحت بالغة الآن، وأمام عينيه هدف واحد فقط: الانتقام. «أولد بوي » تحفة بارك تشان ــ ووك، أو على الأقل حتى تحفته الأخيرة «قرار الرحيل» (2022)، هي الجزء الثاني من «ثلاثية الانتقام» التي بدأها المخرج الكوري الجنوبي مع «التعاطف مع السيد المنتقم» (2002) وأنهاها بفيلم «سيدة الانتقام» (2005). ثلاثية، ليس لها علاقة ببعضها، لكنّ أبطالها متأثرون بتلك الرغبة البشرية في الانتقام.
في الفيلم الأول، نكون أمام رجل فقد ابنته عن طريق الخطأ، يسعى إلى معاقبة المذنب. وفي الثالث، جاء دور امرأة لتقرّر قتل الرجل الذي استغلها ودمّر حياتها. وفي «أولد بوي»، يضعنا المخرج في مكان رجل يتصرّف، في أكثر من مناسبة، مثل الحيوان. كائن غير عقلاني، لا يفكر في ما يفعله. انتقامه هو هدفه الذي يعمل بسببه عقله ويجبر جسده على الامتثال له.
الفيلم مبني على «المانغا»، التي تحمل الاسم نفسه، لكن بارك تشان ــ ووك أعطاه لمسةً أخرى. يحتوي الشريط على سلسلة من الاستعارات الفلسفية (درس المخرج الفلسفة في ألمانيا). في «أولد بوي »، يتم الاقتراب من الانتقام من منظور مأساوي. فيلم يشرب من المأساة اليونانية ليقدم قصة عن الفداء. وبين المرح والسادية، نجد أنفسنا أمام شخصيات معذبة. الفيلم مرتبط بالإفراط، وهذا منطقي، فداي ــ سو رجل لا يمكن تفسير غضبه بالكلمات، بل بأفعال تتجاوز القدرة البشرية على الفهم. يعيدنا «أولد بوي» إلى أعمق مشاعرنا، متجاوزاً الفكرة العامة لكيفية صنع عمل إثارة نفسية وانتقام.
داي ــ سو رجل عازم على الثأر. بعد إطلاق سراحه فقط، بدأ بتجميع شخصيته وكينونته، لكن من ناحية أخرى، العملية صعبة، وهذا المناخ المقفر يغطي الفيلم بأكمله. يحفر الشريط بعمق تحت السطح أو الجلد. المشاعر والأفكار التي يثيرها كثيرة، إلى درجة أنّك لا تعرف حقاً ما يحدث لك أثناء المشاهدة. الذبح يصبح شعراً، خلع عشرات الأسنان من دون تخدير يصبح غناءً، والمطرقة تصبح وسيلة للموت، والحبار الذي يؤكل حياً، ترفرف أرجله ليرقص قبل موته، والانتقام يصبح طريقاً للخلاص وطريقاً إلى أعماق الجحيم في الوقت نفسه. القصة تبقينا مقيدين من اللحظة الأولى، مثل داي ــ سو، يعذبنا الفضول لمعرفة سبب حدوث كل هذا بالطريقة التي حدث بها.
تبرز في الفيلم جماليّته التي لا تقبل المنافسة. يتمتع الشريط بقوة بصرية ساحقة تجرنا إلى نفس الجنة/ الجحيم الذي وجد داي ــ سو نفسه فيها. ينتج عن الصورة طعم لذيذ وإن ملطّخ بالدماء والأشلاء. كل شيء مثقل غير اصطناعي، يبقي الإحساس بالمشاهدة كاملة، ثم هناك الموسيقى وشريط الصوت اللذين هما قصة بحد ذاتها، ترافق وتوجّه أحاسيس المشاهد. يعتبر الفيلم نوعاً من الألغاز، يضع المخرج كل قطعة في مكانها من خلال المونتاج. يقسم الشاشة تارة ويظهر وجهين في الوقت نفسه طوراً. في النهاية تنكشف القصة، ونجد أنفسنا أمام معضلة أكبر: هل كان داي ــ سو يمشي في الطريق الخطأ؟ هل الانتقام عماه عن السؤال عن سبب حبسه والإفراج الغامض عنه؟ نهاية متطرفة أكثر من الفيلم نفسه، لأنّها في الوسط، تحمل ألم الحقيقة، تترك الأشخاص معذبين إلى الأبد. ربح داي ــ سو وخسر في النهاية، وتيقنّا أنّ الانتقام طبق يؤكل دوماً بارداً.