عام 2019 رحلت جيسّي نورمان (1945)، صغيرة أشهر ثلاث مغنيات أوبرا أميركيات من ذوات الأصول الأفريقية. قبل أيام، وافتها إلى العالم الآخر زميلتها غرايس بامبري (1937)، في حين لا تزال بيننا العميدة ليونتين برايس (1927). عالم الغناء الأوبرالي الغربي «الأبيَض» عرف اختراق غيرهنّ من المغنيات، قبلهنّ وبعدهن. لكنّ برايس وبامبري ونورمان فرضْن أنفسهن بقوّة الموهبة، رغم الاختلاف في نوعية الصوت وشخصيته عند كلّ منهن.

الوسطى، الميتزو-سوبرانو غرايس بامبري، التي تركتنا في السابع من الجاري (في العاصمة النمسَوية)، تميّزت باتساع مدى صوتها، لدرجة أنها كانت تؤدّي أيضاً الأدوار المكتوبة للسوبرانو. هكذا، شاركت في عشرات العروض الأوبرالية، أبرزها من الريبرتوار الإيطالي، أعمال فيردي بشكل أساسي، ثم بلّيني، بالإضافة إلى دور كارمن في أوبرا «كارمن» للفرنسي بيزيه (لعب الدور مرّات عدة وهناك تسجيل شهير مصوّر على شكل فيلم من إخراج هربرت فون كارايان وبقيادته) وكذلك أعمال ر. شتراوس وسان-سانس وماسّنيه وتشايكوفسكي وأعمال غنائية وإنشادية من خارج الأوبرا، مثل تاسعة بيتهوفن (تسجيل حيّ ممتاز بقيادة كارل بوم) والقدّاس الجنائزي لفيردي (شاركت في أدائه عام 2001 عندما زارت لبنان بدعوة من «مهرجانات بيت الدين») وبعض أعمال الألماني هاندل من فئة الأوراتوريو وأخرى أوبرالية من الحقبة الكلاسيكية المبكرة (غلوك) والقليل من الأغنيات (بضعة «ليدر» لبرامز وشوبرت وغيرهما).
غنّت بامبري بقيادة عمالقة النصف الثاني من القرن العشرين (كارايان، جيوليني، سافاليش، بوم،…) واعتلت أشهر مسارح الأوبرا حول العالم. غير أن ظهورها الأبرز كان في أوبرا «تانهُويزر» للألماني فاغنر، وتحديداً في مسرح «بايرويت»، أي في المكان الذي شيّده فاغنر والذي يُعَدّ مقدّساً بالنسبة إلى جمهور المؤلف الألماني العملاق.
تميّزت باتساع مدى صوتها، إلى درجة أنّها كانت تؤدّي أيضاً الأدوار المكتوبة للسوبرانو

كان ذلك خلال المهرجان الشهير عام 1961، حيث أسنَد فيلاند فاغنر، حفيد الأسطورة، دور «فينوس» في الأوبرا لبامبري، ما اعتُبِر ثورة في حينها وإبعاداً نهائياً لطيف النازية، التي حاولت جعل فاغنر (1813 — 1883) «مؤلفاً رسمياً» يُعبّر عن مشروعها العنصري. فاغنر كان شديد الإعجاب بالشيوعية، ولكن أيضاً شديد الكره لليهود! وبين كره اليهود (فقط في كتاباته الشخصية) والعمل على إحياء الأساطير الجرمانية (في أعماله)، استطاع النازيون «ضمّه» لفترة، وبقي ذلك في الأذهان بعد سقوط النازية (المثل الأكثر تطرّفاً هو إسرائيل التي لا تزال تمنع موسيقى فاغنر لغاية اليوم). ظهور بامبري على خشبة مسرح «بايرويت» شكّل سابقة لدرجة أن إحدى الصحف عَنوَنَت تغطيتها للحدث بـ«لو رأى فاغنر هذا…» (هذا عنوان مضلّل، والصحيح: لو رأى هتلر هذا!). والأهمّ، تطلّبت هذه الخطوة جرأة كبيرة من فتاة تبلغ 23 سنة وآتية من أميركا وفي بالها ويلات التمييز العنصري في تلك الفترة وقبلها وبعدها. هذه الحادثة أحدثت تأثيراً كبيراً في عالم الأوبرا، وفتحت أبواب الدور الأوروبية والأميركية لبامبري وغيرها وأسهمت بخطوة في مسيرة نضال لا ينتهي.