قبل إنتاج «الثور الهائج» (1980)، كان مارتن سكورسيزي (1942) أعمى أيضاً، كما يَرد في الاقتباس الذي ينتهي به فيلمه. «كل ما أعرفه هو هذا: ذات مرة كنت أعمى والآن يمكنني أن أرى». كانت حياة سكورسيزي وقتها على حافة الهاوية. كل شيء تغير في السبعينيات. حينذاك، كان مخرجاً طموحاً آخر لكن بلا مستقبل، محترماً من قبل زملائه المخرجين من جيله، ومع العديد من الإنجازات السينمائية، بما في ذلك «سعفة كان» الذهبية عن فيلم «سائق التاكسي» (1976). وفي أواخرها، كانت حياته عبارة عن حفلات ومخدرات وصداقات أدت حرفياً إلى تعريض حياته للخطر. طلّق وأمضى أشهراً عدة في حالة من التوتر الشديد والإرهاق. وفي عام 1978، أُدخل المستشفى بسبب نزيف داخلي خطير. في تلك الأثناء، انتهى بول شريدر من كتابة سيناريو «الثور الهائج»، وجاء به روبرت دي نيرو إلى سكورسيزي لإقناعه بأن يكون فيلمه التالي. على سرير المستشفى، اقتنع سكوريزي تحت إلحاح دي نيرو. من حيث المبدأ، كان الفيلم يحكي عن الملاكمة، لكنّ سكورسيزي، أراد، في الواقع، أن يصنعه لأنه أدرك أنه لم يكن فيلماً عن الملاكمة، بل عن ملاكم، جيك لاموتا، بطل الوزن المتوسط في عام 1949. قرر صنع الفيلم لأنه رأى النور، لأنه أراد الخروج من اللحظة السيئة التي مرّ بها، من «فترة الانتحار» التي وصفها ذات مرة من خلال السينما التي ستنقذه. بالنسبة إليه، أصبح الفيلم شخصياً، قصة لها علاقة كبيرة به. «جاء بوبي (دي نيرو) لرؤيتي ـــ يقول سكورسيزي ـــــ تحدثنا وقلوبنا على راحتينا، تحدثنا عن أنفسنا، لكن فجأة، فهمت الشخصية حقاً. عندما سألني بوبي بسرعة: هل تريد منا أن نصنع الفيلم؟ قلت نعم. فجأة أصبح كل شيء شفافاً وواضحاً. ما أمرّ به الآن، كان جيك لاموتا قد عايشه من قبل. لقد عاش كل منّا على طريقته الخاصة، ولكننا قبل أيّ شيء، كنّا نحمل الإرث نفسه، الإرث الكاثوليكي، الشعور بالذنب وأمل الفداء». تعرف سكورسيزي، على الفور، إلى الملاكم، وبدأ العمل بحماس واستعاد الثقة. كان يمكن لفشل «نيويورك، نيويورك» (1977) والضغط الرهيب الذي وضعه على نفسه، وضع حدّ لأحد أهم المخرجين السينمائيين في العقود الأخيرة. كان «الثور الهائج» بداية مرحلة جديدة، وتأكيداً على أن الفنان يجب أن يقاتل نفسه، بالطريقة نفسها التي كان لاموتا يقاتل نفسه في الحلبة.
مشهد بداية «الثور الهائج» هو شهادة على أنّنا أمام تحفة سينمائية. جيك لاموتا (روبرت دي نيرو) يرقص، يضرب الهواء بمفرده في حركة بطيئة، في حلبة مظلمة، تؤرقها ومضات الكاميرا والموسيقى الحزينة للإيطالي بيترو ماسكاني، ثم تظهر الحروف الحمراء الزاهية على الشاشة البيضاء والسوداء، لتُدخل المشهد والفيلم في ذاكرة وتاريخ السينما. وصف سكورسيزي طريقته في الإخراج على أنّها صراع للتكفير عن خطاياه، كأن روحه يمكن تخليصها في السينما. قيل الكثير عن حياة سكورسيزي، وتوجّهه إلى الكهنوت في شبابه. لقد كان أستاذاً في مدرسة اللاهوت لسنوات، لكنّ شيئاً ما جعله يصبح مخرجاً ويلتقط مخاوفه وغضبه وشكوكه على السيلولويد. «الثور الهائج» هو صورة بدائية للوحدة، والسعي إلى تعزيز الإنسان وتدمير الذات في آن، والبحث عن الأنا. قصة جيك التي رواها سكورسيزي مليئة بالتوتر بسبب مزاجه داخل الحلبة وخارجها، وأيضاً قصة خطيئة وفداء، وفي الطريق، يجري بحث عاصف لتعريف جيك نفسه كملاكم، كزوج وكأخ. جاءت هذه الدراما من الرغبة في تسوية المسار والتعرف إلى النفس، بطريقة عنيفة للغاية. العنف في الفيلم دائماً ما يكون له معنى أو تفسير، لأن العنف لدى سكورسيزي ليس غاية بحدّ ذاته، ولكنه وسيلة للحديث عن أشياء أخرى، سواء كان ذلك في شوارع نيويورك التي يعرفها جيداً أو من بعض الأشخاص الذين يشعر بالذنب تجاههم.
سينما مباشرة، بدون قفازات، لا تسمح بالهدنة لأن الحياة هي كذلك


يصعب العثور على خطأ في «الثور الهائج»، فكلّ شيء على الشاشة يبدو متماسكاً ودقيقاً. تحفة سينمائية تجعلك ترتجف أمام الشاشة، تعنّفك وتهزّك وتسمح لك بالتقاط أنفاسك لتدمّرك أخيراً بالبرودة والقلق. «الثور الهائج» كمباراة ملاكمة تكون فيها في زاوية الحلبة محصور لا يمكنك تفادي الضربات، وعندما تنهض لترفع رأسك، ستشعر بقوة كاميرا سكورسيزي على رقبتك وبأنفاس هزيمة لاموتا على وجهك. إنها سينما مباشرة، بدون قفازات، سينما لا تسمح بالهدنة لأن الحياة هي كذلك، مثل حيوان يلاحقك ولا يتركك إلا لاهثاً ومدمّراً.